الأرجوحة 13.. حكايات غامضة لشخصيات ضائعة

إبراهيم الحجري
تجنس الشاعرة الفلسطينية منى ظاهر منجزها الإبداعي الجديد "الأرجوحة 13" -الصادر عن دار العين بالقاهرة 2015- لأول مرة بالنوع القصصي، رغم وعيها بانفتاحه على أنواع أخرى، وتداخله -على الخصوص- بقصيدة النثر التي راكمت فيها أعمالا عدة.
ولهذا الاختيار ما يبرره بحكم أن النصوص المتضمنة في المنجز الأخير الموسوم بـ"الأرجوحة 13″ تميل أكثر إلى السرد القصصي، وإن كانت في كثير من الأحيان تتمرد على المعايير المميزة لهذا الجنس الأدبي، لتظل الكاتبة بذلك وفية لنهجها في تجاوز القوالب الثابتة وحرصها على ارتياد آفاق رحبة تحرر الطاقة الإبداعية وتتيح للذات أكبر فرص للبوح والتعبير، بعيدا عن قيود النوع الأدبي.
وتضم المجموعة بين دفتيها 13 نصا قصصيا تراوح فيه الكاتبة بين الشعر المنثور والسرد، بين الإغراق في التأمل والتوصيف وبين التقاط المشاهد المرئية والغوص في دواخل النفسيات المعتمة للشخصيات والرواة. وكل ذلك من أجل عكس صور النكوص والانهيار اللذين يجثمان على أعماق الشخوص، مما يحد من ديناميتها وحركيتها، ويجعلها كيانا مهزوزا بلا طموح ولا رؤية.
هويات ضائعة
تضم المجموعة القصصية بين دفتيها 13 نصا قصصيا تراوح فيه الكاتبة بين الشعر المنثور والسرد، بين الإغراق في التأمل والتوصيف وبين التقاط المشاهد المرئية والغوص في دواخل النفسيات المعتمة للشخصيات والرواة |
تنتقي مجموعة "الأرجوحة 13" شخصياتها بعناية من الواقع العربي المذيل بالخيبات، فتقتنص اللحظات المفعمة بالإحباط التي تطوقها في أزمنة وأمكنة غامضة، وتصور دواخلها الجريحة دون أن تحدد لها أسماء أو شجرات أنساب أو انتماءات معينة، وكأنها نبتت في العراء بلا فصائل ولا هويات.
ويأتي هذا الاختيار من وعي الكاتبة بمصير الإنسان العربي عامة، والفلسطيني خاصة، في لحظة تاريخية مفصلية لا وجود فيها للكائن الضعيف.
ففي الوقت الذي تحقق فيه المجتمعات الغربية انتصارات مكوكية في مجالات العلم والتكنولوجيا والاقتصاد، يظل العربي يجر خيباته التي تتعقبه منذ زمن بعيد، تائها بين ماض مشرق وحاضر ملتبس لم يعرف كيف يجيب على أسئلته، فيظل ضائع الكينونة في حطام الذكريات، مطوقا بتحديات ثقيلة، وطموحات تتضاءل مع تشظي المجتمعات العربية وهيمنة الصراعات والحروب التي باتت تمزق كيانها وتضعف قواها.
واستنادا إلى ذلك، تعيش هذه الشخصيات المهزوزة كوابيس مزعجة تؤرقها ليل نهار، فيخيل إليها أنها أصيبت بالمسخ والجنون، وأضحت تعيش وسط كائنات غريبة وحشرات وأشباح وحيوانات تثير الغثيان.
ويقول الراوي على لسان إحدى الشخصيات "أفتح عيني، أستفيق، وقد هجم الضوء على النافذة. أشعر بثقل في جسمي وأحس بإعياء غريب.. يا للهول أشعر بتشنج في يدي.. يا للهول أنفي أصبح مدببا.. حلّت عليّ اللعنة، جرذ أنا، بوبر أبيض أضحيت أنا. يا للهول، لي ذيل طويل محرشف".
كتابة ملتبسة
راهنت الكاتبة منى ظاهر على لغة مزهرة تتخضب بألوان المجازات والاستعارات والتشبيهات، انسجاما مع طبيعة النص الذي يميل إلى توصيف الملامح والدواخل أكثر مما يميل إلى حكي أحداث ووقائع |
لا تمنح هذه المجموعة القصصية نفسها للقارئ بسهولة لأن دلالاتها تأتي ملتوية على غير عادة السرد القصصي الذي يقتضي اختيار معجم لغوي وسيط بين الفصحى والعامية، وعبارات تخلو من التعقيد، وتوصيف تقريري مباشر يضع المتلقي في قلب الأحداث دون مناورات.
ولعل اختيار الكاتبة نابع من كونها تريد من خطابها أن يكون ملتبسا التباس شخصياتها وعوالمها الغامضة التي تصورها بشكل كابوسي، وبما يسمح لخبرتها الشعرية أن تتفسح في متنها القصصي لترتقي بلغته وتنفحه بعبق غنائي.
ورغبة من منى ظاهر في رفد النوع القصصي بقوالب جديدة تخرج به من نمطيته وتحرره من القيود الصارمة للميثاق الأجناسي، فقد اعتمدت عدة صيغ خطابية منها تفتيت النص القصصي إلى فقرات ومقاطع معنونة تارة، وغير معنونة تارات أخرى، مرتبطة فيما بينها حينا، ومنفصلة أحيانا أخرى.
ثم إن الكاتبة راهنت على لغة مزهرة تتخضب بألوان المجازات والاستعارات والتشبيهات، انسجاما مع طبيعة النص الذي يميل إلى توصيف الملامح والدواخل أكثر مما يميل إلى حكي أحداث ووقائع، لهذا فإن عجلة السرد تتعطل كثيرا فاسحة المجال أمام الرواة للتأمل والوصف والبوح، في محاولة للقبض ما أمكن على شكل التعبير عن المأزق الحقيقي للإنسان العربي عامة والفلسطيني خاصة.