شاكر الأنباري.. منفى العراقيين وأرشيف العنف

عن رواية "أنا ونامق سبنسر" للعراقيّ شاكر الأنباريّ..
الرواية تسلط الضوء على المغتربين الفارين من جحيم العراق إلى المنافي الأبدية في أوروبا (الجزيرة)

هيثم حسين

يقدم العراقي شاكر الأنباري في روايته "أنا ونامق سبنسر" ملخصا لربع قرن من رحلة التشرد واللجوء والنفي والضياع لأكثر من جيل من العراقيين، حيث يسرد سيرة أناس هجروا بلدهم جراء الحروب التي وجدوا أنفسهم متورطين فيها، دون إرادة أو قرار منهم، وحاولوا تعويض منفاهم بهندسة وطن بديل في مهاجرهم، مما أوقعهم في براثن الغربة المضاعفة والنفي المركب، فلا هم تمكنوا من الاحتفاظ بماضيهم المتخيل ولا هم تمكنوا من المحافظة على حاضرهم أو التخطيط لمستقبلهم كما يجب.

الأنا التي يصدّر بها الأنباري روايته تعبر عن "أنَوات" متشظية أكثر منها عن فرد، لا سيما أن محنة الأنا كانت معممة، ومن هنا يكون سرده المتكئ على الذاتية مشحونا بالأسى، ومنفلتا من إطار الذات، متعديا إلى الآخر، حيث إن مصاحبة "نامق سبنسر" تستحضر المأساة الجماعية. "أنا" الروائي هي معبره إلى الآخر، وهي كوّته على الداخل في الوقت نفسه.

صدمات متعاقبة
يتماهى راوي الأنباري معه في سياق الحديث عن الذات وتداخل الرواية بالسيرة، يصف ظروف هروبه من الوطن ورحلته في جبال كردستان وخروجه إلى إيران ومكوثه في مخيم للاجئين، ثم ذهابه إلى دمشق ومنها إلى كوبنهاغن لاجئا، ليقيم هناك في مجتمع مختلف ووسط عادات وتقاليد جديدة.

إعلان

حلم الانتقال من جحيم العراق إلى فردوس أوروبا تحطم على صقيع الغربة، وظل المنفي في غربته متنقلا من جحيم إلى آخر، إذ لم يمر بأي فردوس ولم يصل إليه.

يشتغل الراوي على تصنيف أرشيف العنف، ويسترجع مفارقات من التاريخ الحديث لبلاده ورزحها تحت سطوة القهر والعنف، وكيف أن العنف يتناسل بطريقة جنونية ووحشية

رحلة ثلاثية يسردها الكاتب، مصائر متقاطعة في عالم متشابك معقد، من بساطة الحياة في البلد إلى موجبات الهجرة واللجوء، والسعي للاندماج.

"نامق سبنسر" يكتسب لقبه من الممثل بودي سبنسر الذي يشبهه، وصديقه الآخر نادر يلقب بـ"نادر راديو" لأنه دائم الثرثرة، وهناك "مراد قامشلو" المذيع في القسم العربي بالإذاعة في كوبنهاغن. كل واحد من هؤلاء يتوه عن ماضيه وواقعه، يفقد معاني وجوده في ظل برودة العلاقات السائدة.

من بلد تربط أبناءه شبكة من العلاقات الاجتماعية والروابط الأسرية، مرورا بعدة مدن في الشرق، وصولا إلى كوبنهاغن، يرسم الكاتب ملامح مرحلة مفعمة بالمآسي، ويبرز أن الهارب من قسوة الحرب وظلم النظام يصطدم بصقيع الغربة وبؤس الزمن، لدرجة أن الغربة قد تدفع بعضهم إلى الانتحار بهذه الطريقة أو تلك.

ويسبر الأنباري واقع أكثر من جيل من المهاجرين العراقيين في بلاد الشتات، الأب يعيش في عزلة، يفقد حياته الأسرية، يمني نفسه بالعودة ولا يفلح في الاندماج مع محيطه، جيل الأبناء يتخفف من مشكلة الاندماج ومن مسألة العودة، لأنه لا يعرف شيئا عن بلاد أبيه، وهكذا يجد نفسه منتميا معنويا إلى وطن يسمع عنه كأي غريب، يسمع أساطير ومآسي عنه، فضلا عن انتمائه الواقعي إلى بلد وجد نفسه فيه كأي فرد من أبنائه.

يشتغل الراوي على تصنيف أرشيف العنف، يسترجع مفارقات من التاريخ الحديث لبلاده، ورزحها تحت سطوة القهر والعنف، وكيف أن العنف يتناسل بطريقة جنونية ووحشية، ويكاد يقضي على مستقبل البلاد وأبنائها. يفقد الحب والانتماء، وبصورة غريبة يتخيل ملامح المعشوقة في وجوه القتلى المشوهة، وكأنه لا مجال للحب والجمال والمتعة في بحر الدماء ومستنقع العنف المغرق.

إعلان

واقع سجون النساء
يسلط الأنباري الضوء على السجون العراقية، يركز على أقسام النساء في السجون ومدى الاستهتار الذي يعمها، وكيف أن السجون تصبح أسواقا للمتاجرة بالنساء واستغلالهن وابتزازهن. تراه يقتحم عالم السجون وعتماتها، من خلال شخصية بطلته سرى، الصحافية التي تعمل في بغداد، ولها علاقات متشعبة مع مختلف الأطراف، حيث إن شخصيتها مدعاة للاستغراب، لكنها تحرض على تغيير واقع النساء في بلد يعيش مراحل وحشية متتالية متناسلة من بعضها البعض، وينتقل من استبداد إلى آخر، ناهيك عن الاستبداد الأسري والاجتماعي وما يفرزه من تداعيات على حياة الناس هناك.

يؤكد الأنباري أن المنافي لم تمنح الدفء للمنفيّ ولا وفرت له السعادة المنشودة، بل وضعته في مواجهة أعداء شرسين لا يرحمون، الاغتراب الداخلي والنفي القهري

يعتبر الراوي نفسه شخصا محشوا بالذكريات، على أهبة الانفجار للبوح والاعتراف، وكأن تلغيم الواقع يصيبه بالعدوى، فينزع مسمار الأمان ويفصح عما يتعارك في داخله. يتجاوز تخوم الحيرة، يقف على عتبات التغيير المفترضة، وكيف أن كل تغيير أعقب تدميرا وخلف آخر، ولم يستطع إنقاذ ما يمكن إنقاذه. 

ويؤكد الأنباري أن المنافي لم تمنح الدفء للمنفي ولا وفرت له السعادة المنشودة، بل وضعته في مواجهة أعداء شرسين لا يرحمون الاغتراب الداخلي والنفي القهري، فأصبح في قيوده الكثيرة يناجي وحشته، ويهرب إلى الانتحار البطيء، هاربا إلى الأمام من أشباحه ووحوشه، من أحلامه الموءودة وسعادته المفقودة. ويعتبر أن تحدي الموت ومغافلته كانت نوعا من المعاقبة التالية، حيث إن الحياة بعد فقد الوطن والأحباء والأصدقاء تصبح سجنا قاهرا لا يطاق، إذ يصبح الفرد نزيل عتمته الداخلية وقهره وأساه.

 ينتقل صاحب "موطن الأسرار" من توصيف بلاد يكون الفرد فيها مهدور الحياة مقهورا في حله وترحاله، إلى بلاد يكون الفرد فيها عالما مستقلا بذاته. كما يصف طبيعة اختلاف إيقاع الحياة بين الأمكنة، تجتاحه أسئلة وجودية تجاه مسائل كانت تشكل بالنسبة له مرتكزات وأساسيات لا محيد عنها. يكتشف عالما مختلفا، يتذكر ماضيه بحرقة وحسرة، وبرغم أن العودة تظل محفوفة بكثير من المجازفات فإنه يؤثر لبطله القيام بها، للوقوف على خرائط جروحه واستنزاف بلاده، عسى أن يعثر على مخارج من الأزمات المتعاقبة على الصعيدين الشخصي والعام.

إعلان
المصدر : الجزيرة

إعلان