الروائي وانتقاء الشخصيات

أمير تاج السر*
في لقاء ودي مع عدد من المثقفين، طُرحت مسألة الشخصية الروائية وأهم الشروط التي تنطبق على شخصية ما في الواقع حتى تتحول إلى شخصية روائية؟ أيضا كيف توظف الشخصيات أصلا، هل تكتب هكذا بنفس معطياتها الواقعية أم أن ثمة تعديلات لا بد منها، من المفترض أن تحدث حتى نستطيع أن نقول إن هذه الشخصية روائية؟
بالطبع، كل كاتب أو قارئ له رؤيته الخاصة في مثل هذه المواضيع، ولطالما ناقضنا القراء في شخصيات كثيرة اعتبرناها تملأ الرواية وتفيض عن رؤيتنا، وذكروا أنهم لم يحسوا بكونها شخصيات روائية أبدا.
بعضهم ذكر سبب إحساسه ذلك، وبعضهم تركه هكذا مبهما، وأذكر أن أحدهم كتب لي سائلا عن شخصية جيلبرت أوسمان، أو عثمان الإنجليزي، من أين أتيت بها؟ وهل أنا مطمئن تماما إلى أنها أدت دورها في الرواية؟ لأنه هو كقارئ لم يحس بذلك.
أكيد أن ما ذكره هذا القارئ يؤكد اختلاف الرؤى الذي ذكرته، وهو حق مشروع بالتأكيد ولا يستطيع أحد أن يلغيه، ولأنني كتبت كثيرا عن "مائة عام من العزلة" لماركيز، فدائما ما تصلني رسائل من قراء لا تعجبهم كتابة ماركيز، ليؤكدوا -حسب آرائهم- أنني أسرف في مدح روايته. كان ذلك يضايقني في البداية، لكنني اعتدت عليه، فلا أحد فوق تعدد الرؤى والاختلاف، حتى لو كان غارسيا ماركيز العظيم.
أعود لموضوع الأسئلة المتعلقة بالشخصية الروائية، وهنا أذكر تعدد وجهات النظر بالنسبة للكتاب فقط، بمعنى أن ثمة شخصيات تشحن كاتبا ما، تظل غير قادرة على احتلاب نظرة واحدة فقط من كاتب آخر، وشخصيات يمكن أن تتمدد في ستمائة صفحة عند كاتب، تظل أسيرة مائة صفحة فقط عند آخر، ولذلك تعددت أساليب الكتابة، وتعددت أساليب القراءة أيضا، ولولا ذلك لما كانت هناك كتابة أو قراءة أصلا.
بالنسبة لمواصفات الشخصية القادرة على الاستفزاز -في الواقع- وانتزاع مكان جيد لها داخل نص، فأنا شخصيا وبعد غربلة شديدة لمعظم الشخصيات التي استوحيتها من واقعي وكتبتها في نصوص، لم أعثر على مواصفات محددة جمعت كل تلك الشخصيات ببعضها، ولا مواصفات عامة يمكن العثور عليها لنقول إن هناك شخصية جاهزة للوجود في نص ما.
صنعة الكتابة
كل شخصية من تلك الشخصيات تبدو عادية داخل المجتمع، فهي إما شخصية فاعلة، لها دور تؤديه، وإما خامدة بلا دور، وهكذا لن يعثر أي محلل على إشعاع يمكن أن تطلقه شخصية سائق عربة، أو بائعة شاي، أو مجنون يترنح في الشوارع، أو مفتش تذاكر في عربة قطار. الذي حدث أو يحدث غالبا، هو أن الحكاية نفسها هي التي تمد يدها لمثل تلك الشخصيات، وتدخلها في لحمها بعد ذلك. حكاية يستطيع جزار صارم مثلا أن يدخلها، يستطيع ممرض مهمل أن يدخلها، تستطيع بائعة هوى تعسة أن تدخلها، بمعنى أن في الحكاية نفسها مواد لاصقة، تلصق الشخصيات، ويتداعى النص بعد ذلك.
الكاتب بالتأكيد يملك أقلاما وألوانا وفرشاة، كلها من الخيال، وبتلك العدة البسيطة يستطيع أن يحول فتاة الجيران الشرسة الرافضة لمبدأ الغزل في الأساس إلى نسمة رقيقة وهشة |
لو أجبنا عن التغيرات التي تحدث في الشخصية من أجل أن تجلس في مكان داخل نص ضاجّ، أو تقف ساكنة في نص هادئ، فهذا أعتقد أنه من صميم صنعة الكتابة نفسها، وكما هو معروف، فالكتابة صنعة، والصنعة تحتاج لإجادة حتى يمكن تسويقها. وبالرغم من أن صنعة الكتابة ليست من الصنائع الرائجة أو المفضلة لدى البشر، فإن محاولة إتقانها شيء لا بد منه.
الكاتب بالتأكيد يملك أقلاما وألوانا وفرشاة، كلها من الخيال، وبتلك العدة البسيطة يستطيع أن يحول فتاة الجيران الشرسة -الرافضة لمبدأ الغزل في الأساس- إلى نسمة رقيقة وهشة، تتكسر من كلمة غزل عابرة داخل نص يكتبه، ويستوحي أحداثه من محيطه، كذلك يمكنه أن يجعل هذه المرأة الإنجليزية العجوز، التي بلا ملامح محددة، والتي تراقب الطريق يوميا، ولساعات طويلة، حيث كان يقيم في إحدى زياراته لإنجلترا، امرأةً عاشقة، لا تتلصص على جيرانها، وإنما تنتظر حبيبا ضاع منذ أكثر من خمسين عاما، وما زالت تحبه، وتنتظر عودته بهذا الشكل اليومي.
تجميل الشخصيات
عشرات الحيل موجودة من أجل تجميل الشخصيات داخل النصوص، أو تشويهها، تحسين صورتها أو وصمها بما ليس فيها، وأعتقد أن شخصيات كثيرة لدى كتّاب أحب كتابتهم وأحترمها كانت حقيقية بالفعل، وتمت للكاتب بصلة، لكن فرشاته وألوانه، غيرت من نكهتها، وبذلك لن يتعرف إليها أحد في الواقع.
هناك شخصيات كثيرة في الواقع، تعجبني، وأستطيع أن أجهز لها الألوان التي ستغير سحناتها، لكني لم أعثر حتى الآن على النصوص التي تقبل بها، وتفتح لها باب الدخول |
أود أن أذكر أن هناك شخصيات كثيرة في الواقع تعجبني، وأستطيع أن أجهز لها الألوان التي ستغير سحناتها، لكني لم أعثر حتى الآن على النصوص التي تقبل بها، وتفتح لها باب الدخول. منها شخصية مراد الآسيوي، الذي يرتدي زيا ملونا، ويحمل حقيبة فارغة، ويتحدث عن عالم غريب، وشخصية رجل ألتقيه أحيانا في المطارات العربية، ولا أعرف هويته، وكلما شاهدني يقترب مني ويردد: لا بد من صنعاء وإن طال السفر. هاتان الشخصيتان تمتلكان الغموض بلا شك، وتحتاجان لنصوص تسير في هذا الاتجاه.
شخصيات أخرى، مثل شخصية أبو زيد في زحف النمل، وعلي جرجار في العطر الفرنسي، وعبد الله فرفار في صائد اليرقات، كانت غريبة فعلا حين خبّت إلى النصوص خبّا، وأجبرتني على كتابتها في زمن قياسي، غالبا من الصعب إكمال رواية فيه.
أخلص إلى أن الكتابة -كما القراءة- مزاج صرف، وإشعاع يأتي للكاتب من شخصيات ليست بالضرورة مشعة اجتماعيا، هي مسألة من الصعب تفسيرها، مثل كثير من المسائل، لكنها تحدث، وكلما تعددت الأساليب في الكتابة، تعددت أساليب القراءة أيضا.
_______
* روائي وكاتب سوداني.