"حارة" نجيب محفوظ لم يعد بها رواة
يوسف حسني-القاهرة
في الحادي عشر من ديسمبر/كانون الأول 1911، وفي واحدة من حواري حي الجمالية بمصر القديمة، ولد الأديب المصري نجيب محفوظ، الذي حاز جائزة نوبل للآداب سنة 1988.
ولد محفوظ في بيت بسيط يطل على ميدان "بيت القاضي" ودرب "قرمز". ولم يكن سكان الحي يعلمون أن ابن حارتهم -الذي درس الفلسفة، وكان أول من احترف الكتابة في حارته- سيروي سيرتهم للعالم.
يقول محفوظ "وكان البيت مليئا بالأشجار، كنت أمد يدي فأمسك أوراق الشجر، كان شجرا نسميه شجر ذقن الباشا"، أشجار لم تعد موجودة إلا في مذكرات الأديب الكبير، أما البيت نفسه فلم يعد به غير الصمت، وانتظار السقوط.
وفي ذكرى مولد عميد الرواية العربية التي حلت في 11 ديسمبر/كانون الأول الجاري، ذهبت الجزيرة نت إلى حي الجمالية لمعرفة ما إذا كان أبناؤه يعلمون أنهم ينتسبون لحضارتين بحثتا عن العدل والمعرفة؟ وهل انحازوا للإنسان؟ وهل ما زالوا يذكرون ابن حيهم الذي قال ذات يوم إن "آفة حارتنا النسيان"؟
المفارقة أن الحي الذي روى محفوظ قبل خمسين عاما أن "ناظره (حاكمه) نشر الرعب والإرهاب في كل ركن من أركانه"، هو نفسه الذي أنجب حاكما آخر يمارس قمعا غير مسبوق بحق معارضيه منذ نحو عام ونصف العام.
محاولات
جبنا حارات كثيرة وتحدثنا إلى أناس كثيرين، دخلنا من "باب النصر" وذهبنا إلى بيت القاضي وخان الخليلي. ولأن الناظر "الجديد" ورجاله قد بثوا العيون في الأركان، وفرضوا أقصى العقوبات على أتفه الهفوات، حتى باتت الحارة في جو قاتم من الخوف والحقد والإرهاب، لم نجد رواة في الحي الذي أنجب أعظم رواة مصر.
ولا بد للباحث عن سيرة الأديب في شوارع وأزقة الجمالية أو أمام مساجدها العتيقة، أو تحت مشربيات بيوتها الفاطمية، أن يعترضه شاب عاطل يتخذ من انتماء أديب نوبل للحي وسيلة للكسب.
إذا أردت الوصول للمنزل الذي ولد فيه محفوظ فعليك أن تترك سيارتك في حمايته، وأن تدفع له رغما عنك عشرة جنيهات (1.4 دولار)، وإن لم تدفع فالشارع مغلق بأمر من قسم الشرطة!
وإن جلست في مقهى من المقاهي التي جلس فيها محفوظ قبل عشرات السنين فستدفع عشرة جنيهات في قدح من الشاي يباع في كل مكان بجنيه واحد (13 سنتا) أو بجنيهين على الأكثر (27 سنتاً)، وهكذا من يبحث عن محفوظ في حارته فعليه أن يدفع ويدفع، رغم أنه لن يجده.
على المقهى الموجود أسفل المنزل المكون من طوابق أربعة، حيث ولد صاحب "الثلاثية" و"أولاد حارتنا" و"الكرنك" وغيرها؛ حاولت الجزيرة نت التقاط طرف الحديث مع أي من الجالسين أو العاملين في المقهى لكن أحدا لم يتحدث، حتى أن عامل المقهى قال إنه لا يعرف من هو نجيب محفوظ، وكأننا سألناه عن شأن من شؤون "الأمن القومي المصري" وما أكثرها.
لم يكن هناك بد من التوجه إلى مقهى "الفيشاوي" المتاخم لمسجد الحسين. ذلك المقهى الذي جعله محفوظ مقصد الكتاب والمثقفين والسائحين من كل أنحاء العالم، لكثرة ارتياده له وروايته عنه.
رفض وتراجع
اللافت أن أغلب العاملين في المقهى رفضوا الحديث للجزيرة نت عما كان عليه المكان وما آل إليه، وكذلك مدير المقهى، وعندما اتصلنا هاتفيا بصاحب المكان الحاج أكرم الفيشاوي أبدى تحفظا في الحديث.
غير أن عاملا اسمه علي أخبرنا أن المقهى "لم يعد كما كان، فالأدباء والمثقفون لا يأتون إلا فيما ندر، وغالبا ما يأتون برفقة أجانب فيلتقطون صورا تذكارية في غرفة نجيب محفوظ، ثم يمضون".
ومن العجيب أن المقهى الذي منحه محفوظ شهرة جعلت الملك فاروق الأول -ملك مصر والسودان- يذهب ليلتقط فيه صورة تذكارية، صار أغلب رواده من الشباب والشابات الذين يتصاعد الدخان من أفواههم، ويخشون أن تلتقط لهم الصور، وإن سألتهم هل قرأتم شيئا لمن كان سبب شهرة هذا المكان؟ ضحكوا وانشغلوا بهواتفهم المحمولة.