رموز "مدرسة باريس" في معرض فرنسي



ثورة جمالية
وتجدر الإشارة هنا إلى أن وصول هؤلاء الفنانين إلى العاصمة الفرنسية أتى في مرحلة اختمار وتحرر لم يشهدها تاريخ الفن من قبل، ففي مختلف أنحاء أوروبا كانت قد انطلقت ثورات جمالية مهدت السبيل لثورة أخلاقية.
وفي باريس -عاصمة الفن في أوروبا آنذاك- كان قد ظهر أسلوبان جديدان، الأول على يد الفرنسيين هنري ماتيس وأندريه دوران وموريس فلامينك وعرف بالأسلوب التوحشي، والآخر على يد الإسبانيين بابلو بيكاسو وجوان غري وعرف بالأسلوب التكعيبي. ومن رحم هذه الثورتين الجماليتين انبثقت "مدرسة باريس"، التي منحنا روادها ومريدوها فنا خاضعا للإحساس والعاطفة، عبر تحريرهم قوى غامضة في عمق النفس البشرية.
الإيطالي موديلياني مثلا احتك بالتكعيبية والتلطيخية، قبل أن يتوصل إلى تعبيرية مادية معتمة وحزينة ويسجل بواسطتها مراحل وجودية مؤلمة. وضمن سعيه الثابت لتجسيد سرائر الكائن البشري، استوحى أيضا من الفنون الأفريقية والأوقيانية، ومن مراجع فنية إيطالية وانطباعية، فبلور أسلوبا فريدا يرتكز على مقاربة نحتية للشخصيات المرسومة.
وفي الفترة نفسها، طور صديقه سوتين رؤية وتقنية رسمٍ خاصتين، عبر استخدامه بتفنن كبير باقة من الألوان البراقة والمتوهجة ضمن تعبيرية عنيفة. لكن حتى نهاية حياته، بقي هذا الفنان بالنسبة إلى النقاد لغزا يتعذر فكه، وتكمن مفاتيحه في لوحات تتسلط عليها ذكريات طفولة صعبة.
وبعيدا عن بؤس سوتين ويأسه الطاغيين على مناخ لوحاته، ترجم كيكويين في كل ما رسمه حبه للحياة ولجأ إلى أسلوب واقعي ساحر، لا يشوبه أي قلق وإلى باقة غنية من الألوان والانفعالات للتخفيف من وطأة مأساة العالم.

مرحلة فنية مشرقة
من جهته، تأثر البولندي كسيلينغ بالرسام الفرنسي بول سيزان ثم بالمقاربات التكعيبية الأولى، قبل أن يتوجه نحو كلاسيكية فريدة، ثم نحو تصويرية ذات نزعة تعبيرية. لكن في جميع هذه المراحل، حافظ على تنوع كبير في ألوانه ضمن رغبة في نقل انفعالاته أمام روعة الحياة.
أما كرومانيه، فاقترب في عمله من التيار الإشعاعي، الذي شكل حصيلة مثيرة للتكعيبية والمستقبلية والأورفية، قبل أن يتشرب الجمالية التوحشية. ولم ينتظر جوناس نيتير انطلاق شهرة هؤلاء الفنانين للاهتمام بفنهم، بل بدأ في شراء معظم إنتاجهم منذ العام ١٩١٥.
وحين نعرف أن جميعهم كانوا في حالة مادية بائسة آنذاك وأن بعضهم كان يعاني من أمراض نفسية أو جسدية، إلى جانب مشكلة الاندماج في المحيط الفني الباريسي، تتبين لنا قيمة الدور الذي لعبه هذا المجمع في تلك المرحلة المجيدة من تاريخ الفن.
ولدى تأملنا اليوم مجموعة نيتير الفنية الرائعة، نلاحظ أيضا أن اهتمام صاحبها لم يقتصر على فناني "مدرسة باريس" الأجانب، بل طال فنانين فرنسيين نشطوا في المرحلة نفسها وحققوا إنجازات غنية عن التعريف.
وجمع نيتير أعمالا للرسامين التوحشيين موريس فلامينك وأندريه دوران وكذلك سوزان فالادون، التي مارست فن الرسم، بعد عملها موديلا لرسامين كبار مثل بوفيس دو شافان ورونوار وتولوز لوتريك ودوغا، وحقّقت لوحات مشهدية تتميز بقوة تشكيلاتها وحيوية خطوطها وألوانها، أو ابنها الرسام موريس أوتريلو الذي توجه -مثل أمه قبله- نحو مواضيع غير معهودة وسجل في عمله قطيعةً كاملة مع أمثولات الماضي.