بنجلون وثورة تونس.. رؤية روائية مشوهة



كان صاحب جائزة غونكور أول الكتاب من أصول عربية المقيمين بالغرب الذين كتبوا عن الربيع العربي وثوراته، فنثر الحبر هنا وهناك في الصحافة الفرنسية ليجمع ذلك الهم في كتابين، حمل الأول عنوان "الشرارة"، وسرعان ما ترجم إلى لغات الدنيا، ثم جاء كتاب "بالنار" الذي وضعه تحت علامة أجناسية "رواية"، وكان الكتاب سقطة أدبية كاملة.
ولكن متى قرأنا "بالنار" أو ذلك الكتاب الذي حمل تلك العلامة الأجناسية "رواية"، أصبحنا أمام صدمة أدبية، فكيف لكاتب عالمي كما صنفته الموسوعات ووسائل الإعلام والجوائز أن يقدم على كتابة نص يتضمن ذلك الكم من الأخطاء.
بكل تأكيد لكل كاتب الحق في كتابة أو تحويل أي شخصية مرجعية كما حددها فيليب هاومون، التي تضم الشخصيات التاريخية والأسطورية والمجازية والاجتماعية إلى شخصية روائية، ضمن عمل روائي، فقد استدعى رشيد بوجدرة شخصية طارق ابن زياد في "معركة الزقاق" واستدعى غيره المتنبي، واستدعى مواطنه واسيني الأعرج الأمير عبد القادر في "كتاب الأمير". وكتب بنسالم حميش سيرة ابن خلدون في روايته "العلامة"، فلماذا لا يكتب الطاهر بنجلون عن الشهيد محمد البوعزيزي؟
الفارق أن كل هؤلاء الكتاب قضوا سنوات يبحثون في حيوات تلك الشخصيات المرجعية ليستلهموا منها، أو ليعيدوا كتابتها روائيا. فالرواية لا تتنازل عن وظيفتها الأساسية في الإيهام بالواقعية. ومن ثمة يكون البحث في سيرة الشخصية التاريخية أو المرجعية أمرا ملزما للروائي وبعدها له الحق في تحويلها من عالم الوجود الحقيقي إلى عالم التخييل.

سيرة مزورة
خلافا لذلك بدا الطاهر بنجلون متسرعا في رسم ملامح شخصية محمد البوعزيزي، ويأخذ تلك الأخبار التي كانت تروج عنه قبيل هروب بن علي من باب المسلمات، فيظهر علينا البوعزيزي في رواية الطاهر بنجلون متحصلا على أستاذية في التاريخ ولا يتردد الكاتب في جعله واحدا من مناضلي اليسار بالجامعة.
وبذلك يسلب بنجلون الشهيد حقه في الانتماء للعامة، ويلحقه عنوة بالنخبة وباليسار، ليتمسك الكاتب بالقوالب الجاهزة المعروفة عن ناشط سياسي متخرج في الجامعة محكوم عليه بالبطالة عقابا على نشاطه المناهض للسلطة أيام الدراسة الجامعية. والحقيقة طبعا أن محمد البوعزيزي لم يحصل على البكالوريا ولا عرف الجامعة لا من قريب ولا من بعيد.
تتواصل سقطات بنجلون في إقحام شخصية أخرى في الرواية لتشكل صورة الانتهازي وليكون المقابل للبوعزيزي صاحب المبادئ، ولكن من المضحك أن بنجلون يطلق عليها من دون الأسماء اسما مغربيا قحا لا يمكن أن تجده في كل ربوع تونس وهو "بوشعيب".
وهكذا يصبح عنصر الدراما مضحكا، ويشي بفداحة ما يرتكبه الكاتب من تسرع وسقوطه من جديد في أفكار جاهزة، يمكنك أن تلتقطها بسهولة في المسلسلات العربية الساذجة. فبوشعيب هو التاجر الغني الجاهل، الذي سيستغل فقر محمد البوعزيزي ليطلب منه أن يزوجه أخته الصغيرة مقابل شراكته في التجارة أو حمايته من البوليس.
يقدم لنا بن جلون في رواية "بالنار" مدينة سيدي بوزيد، تلك المدينة الفقيرة والمنسية والمحافظة جدا في تونس، كما لو كانت نيويورك بعماراتها البلورية، وكما لو كانت تونس العاصمة بمقاهيها المختلطة وقاعات الشاي -التي يتردد عليها محمد البوعزيزي مع صديقته- أو شوارع باريسية يتعانق فيها العشيقان بكل حرية. ولا يجدان صعوبة كبرى في ممارسة الحب في مدينة محافظة كمدينة سيدي بوزيد.
يقول بنجلون "غالبا كانا يتواعدان في المقهى. يتحدثان كثيرا ويدوران ثم يقهقهان. مضى أكثر من ثلاثة أشهر دون أن يتمكنا من الالتقاء بمفردهما ليمارسا الحب. في المرة الأخيرة، أعارتهما ابنة عم زينب شقتها الصغيرة لأن شريكتها في الإيجار كانت مسافرة".
وبدت سيدي بوزيد أحيانا في روايته كما لو أنها سيدي بوسعيد -الضاحية السياحية الأشهر في العاصمة التونسية-، فهو يصر أنها مدينة سياحية، وشقيق البوعزيزي دليل سياحي يتعرض لمضايقة الشرطة بسبب تاريخ شقيقه السياسي.
أحيانا أخرى يحول الكاتب سيدي بوزيد إلى "ساحة جامع الفنا" في مراكش بالمغرب، يلاعب فيها البعض القردة والببغاوات، ويقول الراوي "كان هناك بائعو سجائر أميركية بالمفرق، غاسلو سيارات بسرعة فائقة، مرافقو مسنين يحتاجون للمساعدة، بائعو بطاقات بريد رسموها بأنفسهم، صانعو ألعاب من علب الليموناده. بائعو خرائط البلاد وصور مايكل جاكسون وبن هابر، مهرجون يرتدون ألبسة حمراء ويقومون باستعراضات وخدع، مروضو قردة وببغاوات، وآخرون يعرضون أفلاما مقرصنة… كما كان هناك رواة علقوا لواقط الصوت على ثنية ستراتهم..".
إن الضعف الذي قرأناه في هذا النص لصاحب جائزة الغونكور لا يمكن أن نرجعه إلى قضية الكتابة تحت الطلب لأن ذلك لا يمكن أن يفقر الخيال لهذه الدرجة |
حقائق تاريخية
ولأن الطاهر بنجلون خالي الذهن تماما من خصوصية المجتمع التونسي فهو لا يتردد في أن يجعل الجمعة والسبت يومي عطلة في تونس، كما هو الشأن في بقية الدول العربية، ففي النهاية كل الدول العربية في ذهنه نسخ بعضها من بعض.
أما الحقائق التاريخية فلا معنى لها، حتى إن الكاتب يخلط بين عهدي الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي ويتحدث عن ثلاثين سنة من حكم بن علي الذي حكم البلاد لمدة 23 سنة، فيقول الراوي "في البيت، كان التلفاز القديم يعرض برنامجا بالذكرى الثلاثين لعهد رئيس الجمهورية …". وختم بنجلون بتغيير عملة البلاد التونسية من الدينار إلى الريال.
في الرواية، يتحدث بنجلون أيضا عن الإسلاميين وعن مضايقتهم للبوعزيزي واتهامهم له بالإلحاد، وهو ما كان متناقضا مع طبيعة المجتمع التونسي. ولكن أطرف ما يعترض قارئ الرواية، كيفية حصول محمد البوعزيزي على رأسماله لشراء بضاعته لأول مرة.
فقد وصل الخيال بالطاهر بنجلون إلى أن يتصور أن هناك "ياناصيب" في كلية الآداب فاز به البوعزيزي، وكانت الجائزة تذكرة طائرة إلى مكة، وبعد تعذر استرجاع ثمنها من شركة الطيران أخذ يبحث عن حاج ليبيعها له وبثمن التذكرة اشترى تفاحا وبرتقالا ملأ بهما عربة والده التي أخذ يجرها في الشوارع كبائع متجول.
هذا التخييل الذي جاء به بنجلون يبدو غريبا، فليس هناك منطق يحكمه ولا واقعية تلجمه، فهل يعود هذا إلى جهل صاحب "ليلة القدر" بالجامعة التونسية، ومناخات البلاد التونسية والعربية عامة على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، أم لفقر في الخيال نفسه؟
إن الضعف الذي قرأناه في هذا النص لصاحب جائزة الغونكور لا يمكن أن نرجعه إلى قضية الكتابة تحت الطلب، لأن ذلك لا يمكن أن يفقر الخيال لهذه الدرجة، ولا هو من سيجعل الكاتب لا يبذل أي جهد لتنزيل نصه في خصوصية المكان الذي زرع فيه جغرافيا وسياسيا واجتماعيا وإنثروبولوجيا. وإنما هو نص يضرب موهبة الطاهر بنجلون، ويعصف بتاريخه الروائي ويعطي الدليل والبرهان على قلم انتهازي بدرجة الغونكور.
_______________
كاتب وروائي تونسي