التشكيلي رودون.. أمير الحلم بباريس

من أعمال التشكيلي الفرنسي أوديلون رودون

من أعمال التشكيلي الفرنسي أوديلون رودون (الجزيرة نت) 

أنطوان جوكي-باريس

يعد التشكيلي الفرنسي أوديلون رودون (١٨٤٠-١٩١٦) فنان اللغز واللاوعي بامتياز في حقبة تميزت بالسعي خلف الواقع والموضوعية، ولعب هذا الفنان دورا رئيسا في انبثاق التيار الرمزي. ومع ذلك يرجع معرضه الاستعادي الأخير في باريس إلى العام ١٩٥٦.

ولتبديد بعض من هذا الإهمال الجائر بحقه، تنظم "جمعية المتاحف الوطنية" حاليا، بالاشتراك مع متحفي أورسيه وفابر والمكتبة الوطنية، معرضا شاملا له في "القصر الكبير" يحمل عنوان "أوديلون رودون.. أمير الحلم" ويشكل إعادة اكتشاف حقيقية لهذا العملاق على ضوء الدراسات الجديدة التي وضعت حوله.

ولهذه الغاية، تم جمع وترتيب 100 لوحة ورسم وعدد مماثل من المحفورات والرسوم المطبوعة (lithographies) بطريقة يتجلى فيها مسار رودون بجميع مراحله، وبالتالي سيرورة تطور أسلوبه وموضوعاته من الظل إلى النور.

وتجدر الإشارة أولا إلى أن رودون، وإن مارس فن الرسم بالريشة منذ بداية طريقه، فإنه يدين بشهرته إلى رسومه المطبوعة أو المنفذة بقلم الفحم التي استكشف فيها عالما مقلقا انبثق من مخيلته وتغذى من قراءاته لبودلير وإدغار ألان بو ولكن أيضا من نظريات داروين النشوئية.

وفي هذه الرسوم المزعجة التي صدمت معاصريه وفتنت بحساسيتها وأسلوبها الفريدين وجوه الأدب والفن آنذاك مثل مالارميه وجوريس كارل ويسمانس وغوغان وإميل برنار، تنشط كائنات دميمة داخل مشاهد بحيرية غريبة وتتكرر بعض الموضوعات بشكل استحواذي، كالكرة والعين والحياة المجهرية والمسخ والملاك الساقط والشمس السوداء.

الأعمال الأدبية عدت جزءا هاما في إلهام تجربة التشكيلي رودون (الجزيرة نت)
الأعمال الأدبية عدت جزءا هاما في إلهام تجربة التشكيلي رودون (الجزيرة نت)

الانحطاط والمقلوب
لكن من المؤكد أن رودون لعب دورا رئيسا في انبثاق التيار الرمزي سواء برسومه المطبوعة الشهيرة أو بتلك التي حققها بقلم الفحم، وذلك قبل أن يفتن بلوحاته الزيتية وبتلك التي أنجزها بمادة الباستيل مجموعتي "الأنبياء" (Nabis) و"التوحشيين" (Fauves)، ثم الجيل السريالي الأول.

مسار معرض رودون الحالي يبدأ بأول ألبوم أنجزه عام ١٨٧٩ بتقنية الحفر على الحجر تحت عنوان "في الحلم"، ويتألف من عشرة رسومٍ مطبوعة تمثل الحياة، من الولادة حتى الموت، وتظهر كتسلسل صور داخل حلم.

كما نستشف فيها فضول الفنان لمذهب داروين وتأثّره بالتيار الرومنطيقي. وعلى قلّتها، أمنت النسخ التي طبعت من هذا الألبوم (٢٥) وبيعت بواسطة الاكتتاب انقشاعا سريعا له في الوسط الأدبي الباريسي.

لكن يجب انتظار الألبوم الثاني الذي أنجزه عام ١٨٨٢ تحت عنوان "إلى إدغار بو"، والحاضر بجميع رسومه المطبوعة داخل المعرض، كي يحظى رودون بشهرة فعلية داخل الوسط المذكور فيكتب إميل هينكان مقالة يمدحه فيها، ويتوقف ويسمانس عند فنه في روايته الشهيرة "بالمقلوب" (١٨٨٤)، والاثنان انتميا إلى المجموعة الأدبية التي كانت تحيط بالكاتب مالارميه وتطلق على نفسها صفة "الانحطاط" قبل أن تعرف بالمجموعة الرمزية.

وفور اكتشاف أعمال الكاتب الأميركي إدغار ألان بو عام 1865، افتتن رودون بمناخها الخارق والحلمي. وهذا ما دفعه عام ١٨٨٢ إلى إنجاز الألبوم المذكور الذي لا تشكل رسومه محاولات لتزيين قصص الكاتب الأميركي بل أعمالا مستوحاة منها.

استوحى رودون لوحات من الأجواء الكابوسية والغرائبية لدى بعض الكتاب (الجزيرة نت)
استوحى رودون لوحات من الأجواء الكابوسية والغرائبية لدى بعض الكتاب (الجزيرة نت)

العالم الأدبي
وباحتفاله بهذا الكاتب، أراد الفنان لفت الانتباه إلى عمله عبر وضعه تحت رعاية شخصية معروفة بمناهضتها للواقعية ومحبوبة في الوقت نفسه من قبل الجمهور الفرنسي؛ مما شكل مناورة ناجحة أمنت له علاقات وثيقة مع ويسمانس ومالارميه ومقالات ثابتة حول فنه كتبها تلاميذ مالارميه في مجلات أدبية مختلفة.

وعلى مر السنين، تعززت روابط رودون مع العالم الأدبي، مما دفعه إلى متابعة عمله المستوحى من أعمال روائية وشعرية، كما هو حال الألبومات الثلاثة التي استوحاها من رواية فلوبير "تجربة القديس أنطونيوس" بين عامي ١٨٨٨ و١٨٩٦، أو الرسوم التزيينية التي انطلق في تحقيقها لنص مالارميه الشهير "رمية نرد" عام ١٨٩٨، ثم توقف بعد وفاة الشاعر.

وقبل التطرق إلى هذه الأعمال، يتوقف المعرض الحالي عند ألبوم "الأصول" الذي أنجزه رودون عام ١٨٨٣ وحاول فيه استعادة اليسر والعفوية الملاحظين في ألبومه الأول. وفي هذا السياق، ألغى الشروح (légendes) التي تواكب عادة رسومه المطبوعة بهدف دعوة المتأمل في هذه الأخيرة إلى التركيز على صفاتها التشكيلية. ومن السديم الأولي حتى ظهور الإنسان، يمثل هذا الألبوم أصول الحياة وفقا لنظرية التطور.

وفي جواره، نشاهد ألبوم "تحية إلى غويا" (1885) الذي أصبح بسرعة عمل رودون الأكثر شهرة بفضل مقال ويسمانس حوله في "المجلة المستقلة" في العام نفسه، وبفضل افتتان مالارميه به وبالشروح المرافقة لرسومه التي تشكل مجموعة قصيدة نثر يلعب فيها فن طباعة الحروف دورا هاما، كما يشكل تمثيل الوجه في جميع أشكاله، من الأكثر غرابة إلى الأكثر واقعية، الخيط الموجه لهذه الرسوم.

وعبثا نحاول العثور في هذا الألبوم على استعارات شكلية من عمل الفنان الإسباني غويا. فعنوانه كان محاولة جديدة من رودون للفت الانتباه إلى عمله عبر سلوكه هذه المرة الطريق الذي فتحه النقاد أمامه. وفعلا شبه إميل هينكان منذ العام 1882 رسوم رودون برسوم غويا، ثم تبعه في ذلك ويسمانس داخل روايته المذكورة.

اللوحات الزيتية حقّقها رودون منذ بداية مساره بموازاة نشاطه الحفري والطباعي (الجزيرة نت) 
اللوحات الزيتية حقّقها رودون منذ بداية مساره بموازاة نشاطه الحفري والطباعي (الجزيرة نت) 

ألوان معتمة
وبعد إدغار بو وغويا، كان من الطبيعي أن يهدي الفنان ألبوما بعنوان "الليل" عام ١٨٨٦، ويتألف من ستة رسوم مطبوعة يطغى عليها ألوان غسقية معتمة، إلى الحفار رودولف بريدان الذي علمه في بداية مساره فن الحفر وفن طبع الرسوم بماء الفضة وكيفية استخدام تدرجات الأبيض والأسود كعامل روحي أو ذهني وكلغة رؤيوية.

ويجاور هذا الألبوم في المعرض الألبومات الثلاثة التي استوحاها رودون من رواية فلوبير التي سبق ذكرها والتي شكلت له منجما لا ينضب من الشياطين والعفاريت والكائنات الغريبة.

وفي القسم الأخير من المعرض، نشاهد اللوحات الزيتية التي حققها رودون منذ بداية مساره بموازاة نشاطه الحفري والطباعي، فيتبين لنا أن النشاطين شكلا حتى العام ١٨٩٠ ميدانين معزولين أحدهما عن الآخر: الرسم بالألوان لدراسة النماذج والمشاهد الطبيعية، والرسم المنجز بقلم الفحم أو المطبوع بحبر أسود للمواضيع الخيالية.

لكن بعد التاريخ المذكور، بدأ العالم الحلمي للفنان بالظهور تدريجيا داخل اللوحات الملونة. ومع بداية القرن العشرين، انحسرت التشكيلات المعتمة لصالح تشكيلات نيرة أثبت رودون فيها مهارة فريدة في التلوين حولته بسرعة إلى مثال لفناني مجموعتي "الأنبياء" و"التوحشيين" الذين ثوروا على خطاه استخدام الألوان في فن الرسم.

المصدر : الجزيرة