إبراهيم خليل: روائيون سوريون بشروا بالتغيير
حاوره في عمان: توفيق عابد
يجمع المؤلف والناقد الأردني الدكتور إبراهيم خليل بين النقد والتأليف، وله باع طويل في صنوف الإنتاج الأدبي، وله بصمته الخاصة على الحركة الثقافية في الأردن، حيث أنتج خمسين مؤلفا مختلفا آخرها "محمود درويش قيثارة فلسطين"، وتتسم مؤلفاته ودراساته بالبحث والتنقيب والتحميص الكثير في الموروثات الأدبية.
وصفه الكثيرون بأنه ناقد عدواني ومشاكس لتطبيقه المواصفات العلمية الصارمة في أحكامه النقدية، بوصفه أستاذا جامعيا يحرص على تدريب طلبته على التعمق والبحث بموضوعية ومراعاة المعايير العلمية.
وفي حوار خاص مع الجزيرة نت، بيّن خليل بشفافية ووضوح مدخلات ومخرجات الوضع الثقافي بالأردن، لا بهدف التجريح وإنما لتصحيح المسار، حسب تعبيره، موضحا أن المثقفين دعاة تغيير، وأن المأجورين لا يعرقلون حركة التاريخ، لافتا إلى أن روائيين سوريين بشروا بالتغيير، وفيما يلي تفاصيل الحوار:
كيف تشخص المشهد الأدبي في الأردن بصراحة، حيث إنك من داخل المطبخ الثقافي؟
إبراهيم خليل: ينفتح المشهد الثقافي في الأردن على صورتين الأولى يمثلها المثقفون الرسميون وهم يحظون بدعم مطلق من الجهات الرسمية كوزارة الثقافة والدائرة الثقافية والمؤسسات الصحفية شبه الرسمية.
والثانية مثقفون لا يحظون بأي دعم وغالبا ما يوصفون بالمعارضين، وهؤلاء يستغلون نقاط الضعف لدى النموذج الأول الذي يضم -في الواقع- أنصاف الموهوبين، فينتزعون منهم بعض الفرص ليتمكنوا من النشر في الصحف والمجلات أو الملاحق الثقافية، وقد يسمح لهم بإحياء بعض الأمسيات الشعرية والندوات، كتلك التي تنظمها جمعية النقاد الأردنيين ورابطة الكتاب الأردنيين قبل أن تغلب عليها الصفة الرسمية.
وأتاحت لهم الصحف والمجلات الإلكترونية فرص النشر وإبداء الرأي، كمجلة "قاب قوسين" التي بدأت الصدور منذ عام بمبادرة من القاص الروائي محمود الريماوي.
يعزو بعض المبدعين انهيار الثقافة في الأردن لضعف دور المؤسسات الرسمية وغياب الدعم ويتجاهلون دورهم في ذلك، فما رأيك؟
إبراهيم خليل: المثقفون من الشعراء والكتاب والنقاد يتحملون قسطا من التراجع الواضح في مجال الثقافة المكتوبة والمنشورة، إلا أن غياب الدعم مما يسمى المؤسسات الرسمية ساهم أيضا، فثمة كتاب من مدعي الثقافة لا يملكون إلا فنون المجاملات والتزييف والنفاق، يتلقون دعمًا بلا حساب، وإلا كيف يتاح لكاتب قصة قصيرة أن يعمل مثلا في عدد من المؤسسات في آن واحد ويتلقى رواتب كبيرة، فيما تقوم تلك المؤسسات بنشر عملين له في سنة واحدة، رغم كونهم من أنصاف الموهوبين.
فالكثير مما ينشر من روايات ما كانت لترى النور لو أن أصحابها يتوقعون أن يقيمها نقاد جادون، ولهذا يختلط لدينا الحابل بالنابل والزائف بالصحيح، حتى أصبح الروائيون المشهورون في الأردن هم من لم يقرؤوا في حياتهم رواية أو اثنتين.
كتابك "محمود درويش قيثارة فلسطين" هل يضيف جديدا في ظل الدراسات الكثيرة التي سبق أن تناولت خصائص شعره؟
إبراهيم خليل: صحيح أن شعر الراحل محمود درويش قد جرى تناوله في مقالات وبحوث ومؤلفات كثيرة جدا، وأن الدفع بكتاب جديد إلى رفوف المكتبة سيكون شيئا عديم الفائدة إذا كنا نبتغي التزيد والتراكم الكمي فقط، لكن كتابي يتطرق لجوانب لم يسبق لدارس التطرق إليها، فمثلا تتبعت الرموز الأندلسية في شعره وعلاقتها بموقف الشاعر من الهم الفلسطيني وتوصلت لبعض النتائج.
فدرويش كلما ذكر قرطبة ذكر مقابلها هاجس الرجوع والعودة، في حين أنه كلما أشار إلى الأندلس تذكر الضياع واللجوء والتشرد.
وفي فصل آخر تناولت الموسيقى في شعره وهي مفتاح آخر لعبقريته، وفي اعتقادي لو لم يكن درويش شاعرا لكان موسيقارا بكل تأكيد، لذا حاولت أن ألقي الضوء على علاقة الإيقاع بالمعنى في شعره، دون إقصاء للبعد الدرامي في قصائده.
كما ألقيت الضوء على توالد القصائد ورؤيته الجدلية لصراع البقاء، في بحث سميته "إيقاع الحب والموت"، وفيه وجدت ما يثبت بالدليل الملموس والشاهد القطعي أن لدرويش فضلا لا ينكر في إخراج المرثية العربية من طابعها القديم المتحجّر، والارتقاء بها إلى مستوى الرؤية الكونية التي تجيب عن أسئلة الوجود والعدم.
ما تعليقك على من يقفون ضد التغيير ويبدون تشاؤما مما عرف بالربيع العربي لاسيما من المثقفين؟
إبراهيم خليل: لا أصدق أن هناك مثقفا واحدا يستحق وصف "مثقف" يقف ضد التغيير، وقد حسم هذا الأمر "همنغواي" في رسالته إلى الكاتب السوفياتي "سيمينوف" الذي كان يكتفي بتمجيد الاتحاد السوفياتي، فرد عليه قائلا إن المبدع الحقيقي يجب أن يقف دائمًا مع دعاة التغيير والمعارضة، حتى وإن كان النظام السائد يتمتع بتأييد الغالبية الساحقة، لأن النظم بطبيعتها تميل دائما لارتكاب المظالم وهي بحاجة لنقد المعارضين والمثقفين باستمرار، وإلا فإن النظام سيتحول مع الزمن إلى ما يشبه المستنقع، والمستنقع لا بد آسن ويؤدي إلى فساد في المكان والزمان.
بعض المثقفين يرون أن الدكتاتور من صنع مثقفي السلطان، ما رأيك؟
إبراهيم خليل: العلاقة بين الثقافة والسلطة علاقة جدلية لا ميكانيكية، بمعنى أنه مثلما يتأثر المثقف بالسلطة فهو يؤثر فيها سواء بسواء، وأعتقد أنه في الوقت الذي يتوافر فيه مدّاحون للسلطان يوجد من ينتقدونه ويهجونه، ولكن الذي يؤدي الدور الأكبر هو الوسائل الإعلامية وقنوات الاتصال التي تمنح مثقفي السلاطين ما لا تمنحه للمثقفين الآخرين.
إبراهيم خليل:ترى شاعرا من الدرجة العاشرة تتمحور قصائده حول مدح هذا الرئيس أو هذا الملك يحتل منزلة لا يشغلها أي أديب من الدرجة الأولى |
لهذا ترى شاعرا من الدرجة العاشرة تتمحور قصائده حول مدح هذا الرئيس أو هذا الملك يحتل منزلة لا يشغلها أديب من الدرجة الأولى، وعلى هذا النحو يكون الأثر الذي يتركه أمثال هذا الشاعر في الرأي العام المعلن والرسمي أكبر من غيره، ولكن المخبوء تحت السطح يؤكد أنّ هناك من لا يؤيدون ما يقوله هذا الشاعر أو الكاتب، لذا فإن صناعة الطاغية أو الدكتاتور من عمل بعض المثقفين، في بعض الأحيان.
فروايات نبيل سليمان وخالد خليفة ومنهل السراج تبشر بالتغيير القادم في سوريا، لذا كيف نتهم المثقفين بأنهم يصنعون الطغاة؟ أعتقد أن ما يفعله مثقفو السلطة في كل عصر لا يعدو أن يكون تجميلا لوجوه السلاطين، سرعان ما يتبدّد عند أقل احتجاج أو انتفاضة أو ثورة، ولهذا لا أعترف بأن المثقفين المأجورين يمكن أن يعرقلوا حركة التاريخ.
ما رأيك في القائلين بعدم وجود نقد عربي محايد بل هناك شبكة علاقات شخصية تخدم أعضاءها؟
إبراهيم خليل: هناك في محيطنا الثقافي العربي أناس غير قادرين على تحمل النقد مثل الدكتاتور الذي لا يتحمل أن يقال له أنت دكتاتور، فيبدأ على الفور بالقصف بعدما يتهم معارضيه بتنفيذ أجندات خارجية، لذا فإن كثيرا من النقاد اضطروا في بلادنا لسلوك السبيل السوي في نظر الجماعة، كي لا يتهموا بأنهم يغردون ضد السرب أو يسبحون عكس التيار.
وكثيرا ما وصفت بالعدوانية أو المشاكسة في مقالات وندوات ومؤتمرات، وهذا شيءٌ لا يسرّني بالطبع مثلما لا يزعجني إلا بالقدر الذي يُفهم منه تملصي من النقد الشللي ومن شبكة العلاقات الشخصية، وقد تجد في كثير مما ينشر نقدا محايدا في المجلات والكتب، وأما النقد الذي ينشر في الصحف فتغلب عليه المجاملات والسطحية.
يصفك البعض بأنك تجامل في نقدك على حساب الموضوعية والمنهجية ما تعليقك؟
إبراهيم خليل: لم أقرأ هذا الوصف ولم أسمعه، لأنني لا أتناول فيما أكتبه إلا ما أقتنع بجودته وبأنه من الأدب الذي تقلّ فيه العيوب ويجمع على استحسانه كثيرون، وسأضرب مثلا على خلو ما أكتبه من المجاملات، فعندما صدرتْ رواية "رغبات ذلك الخريف" لليلى الأطرش وهي -بالمناسبة- صديقتي منذ عام 1989 لم أتغاض عما فيها من عيوب، وقد وصفت دراستي لها بالدراسة القاسية على الرغم مما يربطني بها وبأعمالها الأخرى.
وعندما صدرت رواية الصديقة سحر خليفة "أصل وفصل" تناولتها بدراسة واقعية ولم أتغاض عما فيها من عيوب فنية وتاريخية، وكنت حريا ألا أفعل ذلك لو أن للمجاملات موضعا فيما أكتبه.
وعندما أهْدى إليّ سليمان قوابعة روايته الأخيرة "السفر برلك" وهي رواية فيها أخطاء كبيرة على مستوى التكنيك تناولتها في دراسة صريحة جدًا، وبيّنت ما فيها من محاكاة ساذجة وسطحية لبعض المسلسلات البدوية الفاشلة دراميا، وقد استفز من تلك الدراسة، وردّ علي ردا شخصيا اتهمني فيه بتنفيذ أجندات خارجية.
ثمة محطاتٌ في حياة المبدع تتخللها نجاحات وانتكاسات فكيف كانت مسيرتك؟
إبراهيم خليل: النجاح بالنسبة للكاتب أن يشعر بصدى ما ألفه ونشره وأن يحظى بالتقدير والإعجاب، وقد تلقيت ذات يوم رسالة بالبريد الإلكتروني من أستاذة في إحدى الجامعات التونسية قرأت ما كتبته تحت عنوان "النص التفاعلي" -وهي دراسة لمجموعة مقهى الباشورة لخليل السواحري- قالت في رسالتها إن ما قرأته هو ما يفتقده النقد العربي المعاصر، أيضا بعث شاعر وناقد مغربي إلي برسالة إلكترونية يبدي إعجابه بما في دراستي لرواية "أصل وفصل"، وما فيها من سبر نافذ لأغوار النص الروائي.
ذلك ما أعتبره نجاحا وما عداه فيصدق عليه قوله تعالى "أما الزبد فيذهب جفاء".
يقال إن الكلمة أمضى من البندقية، هل ينطبق هذا على الحالة العربية؟
إبراهيم خليل: لا أميل إلى الأخذ بالتعميم، فلكل وضع خصوصيته وفي بعض الأحيان قد تكون الكلمة أمضى من السيف، لكن في حالات أخرى قد يكون السيف هو الأمضى، والسلاح الناري هو الأكثر فعالية فلا الكلمة وحدها تكفي، ولا السلاح وحده يكفي، والأدق أن يكون الأمران متعاونين.
قد تكون الكلمة أمضى من السيف، لكن في حالات أخرى قد يكون السيف هو الأمضى، فلا الكلمة وحدها تكفي، ولا السلاح وحده يكفي، والأدق أن يكون الأمران متعاونين |
فيقال إن صلاح الدين أكد ذات يوم لجنوده أنه انتصر على الفرنجة بقلم القاضي الفاضل -وهو كاتب وأديب- لا بشجاعتهم، ولكن لو لم يكن إلى جانب القاضي الفاضل قائد كصلاح الدين وجنود كجنوده لما كان لقلم القاضي الفاضل أيّ أثر.
وقيل إن كتابات فولتير ومونتسكيو هي التي فجرت الثورة الفرنسية، وهذا صحيح إلى حد ما، ولكن لو لم يكن ثمة ثوار كالذين هاجموا سجن الباستيل لما كانت الثورة.
فكم من قصائد وخطب كالطلقات، وكتابات بكلمات مشحوذة كالسكاكين كتبت في شحذ الهمم من أجل تحرير فلسطين ولكنها جميعا لم تحرر حتى الآن شبرا واحدا، لأن البنادق التي تساند الكلمة لم تتوافر بعد، وما توافر منها حتى الآن ليس كافيا لجعل الفعلين (الكلمة والسلاح) في مستوى واحد من التعاون والتعاضد على تحقيق الهدف، وهو التحرير.
لذا أرى في الزعم بأن الكلمة أمضى من السلاح زعما لا يخلو من تعميم، فلكل وضع معياره الذي ينبغي لنا أن نقيس به جدوى الكلمة وجدوى السلاح.