انحسار مفهوم الالتزام في الأدب

ومع اندلاع حركات التحرر العربية، وصعود المد القومي الناصري في منتصف الخمسينيات، وانبلاج فجر المقاومة الفلسطينية، أصبح الالتزام الأدبي قانونا صارما لا يجرؤ الكثيرون على الخروج عنه. فظهرت القصائد والقصص والروايات التي لا تتحدث إلا في المقاومة وعنها.
كان النموذج السوفييتي لا يزال ماثلا أمام الكاتب العربي، من خلال روايات حرب الأنصار التي شكلت علامة مضيئة في هذا السياق، ومنارة يهتدي بها الكاتب العربي. ومع توسع حركة المقاومة الفلسطينية، كان من الضروري أن تتوسع مؤسساتها ودوائرها، ومنها الإعلامية والأدبية والثقافية عموما.
وقد ترافق ذلك مع ازدهار الأغنية السياسية والمسرح السياسي وإحياء التراث الشعبي، كعملية ضمن ميكانيزمات المقاومة التي لم تعد تتوقف عند القيام بعمليات مسلحة بين حين وآخر.
كان الهدف من وراء ذلك كله، هو طرق أبواب هذا العالم الذي لن ينتبه إلى قضاياك من دون أن تصل إليه. فازدهرت عمليات الترجمة لكثير من آداب الشعوب من اللغة العربية وإليها، وتمكن القارئ العربي من فهم الكثير مما كان مستعصيا من قبل حول العالم، كالدكتاتوريات والاحتلالات والمقاومات والتحرير وما إلى ذلك.

كانت المشكلة هنا تكمن في البعد الواحد. ومن هنا أصبح لدينا بطل واحد، وموضوع واحد وحتى تقنيات كتابية واحدة أو متشابهة. أي أننا لم نفهم الالتزام بشمولية أو برؤية أوسع مما صوره لنا القيمون على الثقافة في هذه المرحلة.
قبل ذلك، كان شاعر كبير مثل محمود درويش مثلا، يكتب قصائد حب عادية، وسرعان ما أسهمت الظروف الموضوعية التي أشرنا إليها، إلى امتلاك تلك القصائد رؤية أوسع، منسجمة مع القضايا الكبرى، من دون التخلي عن البعد الإنساني في تلك القصائد. فانتقل من "عصافير بلا أجنحة" إلى "أوراق الزيتون" و"آخر الليل" ثم "أحبك أو لا أحبك" قبل بدايته مرحلة جديدة تمثلت في ديوانه "محاولة رقم7 ". فبعد قصيدة "مسح الحذاء مرتين، واستدانة ليرتين…" يبدأ في "بين ريتا وعيوني بندقية".
هكذا كان الالتزام يزحف ليغطي كتاباتنا كلها، إلى الحد الذي جعل من بيروت "المقاومة الفلسطينية" قبلة الكتاب والأدباء والشعراء العرب، بل وبعض العالميين، بالنظر إلى ما كان يتوفر في تلك المدينة من قدرات على النشر والمتابعة والترجمة واللقاءات بين العرب والآخرين خارجيا وداخليا.
وقد نشأت في ذلك الوقت علاقات متينة بين المعسكر الاشتراكي المعادي للإمبريالية الأميركية، وبين حركة التحرر العربية، إلى أن تم إنشاء اتحاد آفروآسيوي أدبي، ومجلة تصدر عنه "لوتس"، تعنى بالأدب الملتزم في أكثر من لغة. وتم تخصيص جوائز مهمة أخرى إضافة إلى جائزة لينين التي كانت تعد لعقود ثانية أهم الجوائز العالمية بعد "نوبل".
" يرى ضمرة أنه بصعود المقاومة الفلسطينية امتد تأثير الأدب الملتزم إلى مساحات واسعة من العالم العربي، وهذا ما قلل من انتشار آداب المغرب العربي إلى حد ما، بالنظر إلى عدم انجراف هذا الأدب وراء هذا الالتزام الميكانيكي " |
في هذه الأثناء، انتعش الأدب الفلسطيني في فلسطين المحتلة عام 1948، وبرزت إلى العلن أسماء احتلت مساحات واسعة من الأهمية في الأجناس والأنواع كلها. وكأن ذلك كان صدى لحراك لم يعد مجرد كتابة فقط. فقد كانت الكتابة تعبيرا شعبويا عن أمل آخذ في النمو والتعاظم، ينطوي على تصحيح خطأ تاريخي تمثل في اغتصاب فلسطين وطرد شعبها.
وجاءت هزيمة حزيران كي تؤكد انطفاء بصيص الأمل الذي كان قائما قبل انطلاق الثورة الفلسطينية. وهو ما يفسر إقبال بعض الكتاب الفلسطينيين في الداخل قبل الهزيمة وبعدها، على التماهي مع المحتل الصهيوني، فشهدنا كتابا عربا يكتبون بالعبرية بدل العربية، في تعبير يشير إلى اليأس والإحباط ، بالنظر إلى أن الأمل كان معقودا على النظام العربي الرسمي، من دون التفكير في التغيرات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي تتحرك عادة تحت سطح المرئي والمسموع.
وقد امتد تأثير الأدب الملتزم إلى مساحات واسعة من العالم العربي، وهذا ما قلل من انتشار آداب المغرب العربي إلى حد ما، بالنظر إلى عدم انجراف هذا الأدب وراء هذا الالتزام الميكانيكي.
وما هو إلا تحول واحد فقط، حتى انقلب الأمر سريعا جدا. بدأ ذلك مع خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت إلى تونس، وهناك اكتشف الأدباء والكتاب والشعراء مساحات مجهولة حتى في الأدب الملتزم، فكان ثمة انحسار للكتابة الملتزمة, أو روية في التعبير.
تحولت حركة التحرر إلى سلطة سياسية وإدارية، وجرى انتزاع أنيابها المسلحة التي جعلت العالم يحس بوخزاتها، وفي مقدمة هذا العالم كان العدو الصهيوني الذي اختار أهون الشرّين.

كان هذا التحول الاجتماعي الكبير والمفصلي، بمثابة بداية حقبة جديدة في الصراع، تختلف في أدواتها وميكانيزماتها وآلياتها عما سبق. فثمة "سلطة" شكلية تحت الاحتلال، وثمة أعداد هائلة من مثقفي الشتات الذين خرجوا من فقر المخيمات في الشتات وبؤسها وعدم إنسانيتها، وجدوا أنفسهم مسؤولين بين ليلة وأخرى، يتحكمون في مسار الثقافة وعناصرها، من دون إغفال تلك الامتيازات الجديدة التي حصلوا عليها.
وفي المقابل وجد الكتاب والشعراء والمثقفون العرب، الذين لم يكونوا منخرطين في حكاية الالتزام تلك، وبعض الكتاب الآخرين الذين ركبوا موجة الالتزام، وجدوا الفرصة سانحة لاسترداد الساحة التي كانت شبه مخطوفة من قبل الالتزام والأدب المقاوم. وفي سرعة فائقة، أخذت الصحف والمجلات ودور النشر العربية، توزع ما كان يشوبه الخجل في التوزيع من قبل.
وهنا يمكن القول إن صيغة أدب المقاومة، أو الالتزام في الكتابة، كانت بمثابة كابوس جاثم على صدور العديد من الكتاب والأدباء العرب، بل وبعض الفلسطينيين أنفسهم. وهذا يعني في جوهره أن هذا الكابوس وضع جانبا أساسيا من الثقافة والأدب في خانة ضيقة من التهميش.
فالمقاومة المسلحة هي في جوهرها ذكورية، ومن دون الخوض في تفاصيل هذا الموضوع الفلسفي، فإننا نكتفي بالإشارة إلى أن مفردات المقاومة، كالمقاتل والمقاوم والمحارب والسلاح وأنواعه ذكورية اللفظة والمعنى.
وفي السياق ذاته، وجدت بعض أشكال التعبير والتكنيك الفني، فرصتها في الظهور إلى العلن، في ظل غياب سلطة الحركة الشعبية، المحكومة بتقاليد تستمد سلطتها الإضافية من جوهر الحركة، بوصفها حركة جمعية لا فردية، وبوصفها تتعلق بمصير أمة لا فرد أو جماعة شاذة.
وهكذا أخذت قصيدة النثر فرصتها الحقيقية من دون معوقات أساسية، كانت تستعير صفة الأصالة، بوصفها صفة ملائمة لحركة تخص أمة كاملة.
" ![]() " |
في الداخل الفلسطيني، أي في فلسطين التي احتلت عام 1948، انطفأ وهج المقاومة الذي شع قادما من الخارج، وأصبح لعملية السلام مفعول يساوي الوضع الاجتماعي فيما قبل المقاومة.
أصبح الالتزام خارج فلسطين أمرا عارضا أو شاذا، في ظل هيمنة التحرر الكتابية التي انتشرت في العالم العربي، وأصبح من السهل والمقبول جدا تخصيص مجلة للجسد مثلا، ومقهى لقصيدة النثر مثلا آخر، ولكن من الصعب الحديث حتى في الصالونات الضيقة عن الالتزام في الأدب، أو عن أدب المقاومة.
كما وجد الكثيرون صيغا عدة لمفهوم الأدب المقاوم، كالجماليات والتكنيك المبتكر وتداخل الأجناس والهموم الفردية والإنسانية وما شابه ذلك. وعلى الرغم من اقتناعنا بهذا كله، فإن تعميم هذه المقولات عربيا كان بمثابة حق يراد به باطل. فمن قال إن أدب المقاومة لا ينبغي له أن يلتفت إلى الهواجس الإنسانية والهموم الفردية والقضايا الحياتية اليومية التي تخص الإنسان وتتعلق به؟ ذلك ربما كان رأي بعض غلاة الأدب الملتزم.
ولكن بعض الكتابات الفلسطينية خصوصا والعربية عموما، لا تزال تفرض نفسها جماليا والتزاما على الرغم من كل ما سبق، ككتابات محمود شقير المقيم في القدس، وإبراهيم نصر الله في عمان، وحسن حميد في دمشق، والأهم من ذلك كله سحر خليفة. من دون أن ننسى أن الراحل محمود درويش ظل وفيا لقضية الالتزام بالمفهوم القومي والإنساني حتى رحيله.
خلاصة القول، هي أن بعض الكتاب فهموا الالتزام "موضة" ترافقت مع صعود حركة التحرر العربية. ولكن ما يجب تأكيده هو أن الالتزام ليس محصورا في السلاح والقتال والتحرير، بمقدار انسحابه على كل ما يخص الإنسان وخلاصه وحياته اليومية ومصيره، وهو ما أخذ يتبلور تدريجيا، بعد مرور طفرة التهويم والتركيز على الجسد وما إلى ذلك، من دون أن يعني ذلك أن الجسد مفردة أساسية في حياة الإنسان.