توفيق كنعان مسيحي دافع عن هوية فلسطين الإسلامية

صبحي حديدي
وفي عشرات الدراسات التاريخية والإثنوغرافية المدهشة، وفي أطوار مبكرة من عشرينيات القرن الماضي، وصف توفيق كنعان سيرورات هذا المزيج العبقري الذي جعل من الممكن لأهل غزة أن يكونوا سمر الوجوه مثل سكان دلتا النيل، وأن تذكّر قسمات بعض سكان منطقة الجليل بملامح الـFrank الصليبيين من حيث الشعر الأشقر والوجه الأبيض والعيون الزرقاء، وأن تكون ملامح أهل أريحا صورة طبق الأصل عن الوجه البدوي الصحراوي النموذجي.

وفي كتابه الهام "قضية عرب فلسطين" الذي صدر أولاً بالإنجليزية وترجمه إلى العربية النهضوي العلماني المعروف سلامة موسى عام 1963، وصف كنعان أهمية الفتح العربي الإسلامي لفلسطين في القرن السابع، وكيفّ تعرّب الفلسطينيون سريعاً وعلى نحو بنيوي شامل، فولدت هويتهم العربية الإسلامية وترسخت أكثر فأكثر مع الغزوات الخارجية اللاحقة (الصليبية والعثمانية والغربية) دون أن تخسر هذه الهوية عناصرها التكوينية الأولى (الكنعانية والآرامية والهيللينية، وسواها).
ولقد أتيح لتوفيق كنعان أن يراكم تجربة غنية منذ السنوات الأولى لتفتّح وعيه بالبيئة الحضارية الزاخرة التي تحيط به، والتي تتجلى في جميع مظاهر الحياة اليومية الاقتصادية والاجتماعية. ولد في بيت جالا، البلدة الفلسطينية التي تتّسم بتعددية مسيحية إسلامية مميّزة، ودرس في دار المعلمين بالقدس، ثم التحق بالجامعة الأميركية في بيروت، وتخرج فيها طبيباً عام 1905.
" كتب توفيق كنعان عشرات المقالات التي تناقش ظواهر أنثروبولوجية ثقافية مباشرة حافظ فيها على منهج علمي وبحثي متقدم للغاية وسابق لعصره " |
وفي هذا الطور سوف تتكامل ملامح توفيق كنعان الأنثروبولوجي، وبالمعنى الدقيق لفروع هذا العلم الذي لم يكن قد دخل العالم العربي لأسباب تاريخية وثقافية (ذات صلة بالقراءة الدينية لأصل الإنسان والتكوين) واجتماعية (على رأسها أنّ العلم بدا "عنصرياً" وغربي التمركز في حديثه عن "الأقوام البدائية" كلما اتصل الأمر بشعوب آسيا وأفريقيا).
ورغم أنّ هذين الكتابين يدخلان أيضاً في فرع الأنثروبولوجيا الثقافية، فقد كتب توفيق كنعان عشرات المقالات التي تناقش ظواهر أنثروبولوجية ثقافية مباشرة: النور والظلام في التراث الشعبي الفلسطيني، الطفل في الخرافات العربية الفلسطينية، الماء، "ماء الحياة" في الخرافات الفلسطينية، "اللعنة" في التراث الشعبي الفلسطيني، حلّ رموز الطلاسم العربية، "الينابيع المسكونة" وكذلك "الشياطين المائية" في فلسطين.
1 ـ المزج التحليلي الذكي بين المعطيات الإثنوغرافية (الدراسة الوصفية لأسلوب الحياة وأنساق التقاليد والقيم والمهارات والفنون والمأثورات الشعبية) والمعطيات الإثنولوجية (الدراسة التحليلية والمقارنة للمادة الإثنوغرافية، واستخلاص تعميمات نظرية بصدد وجود -أو إمكانية وجود- نُظُم اجتماعية ذات ملامح مشتركة).
2 ـ البحث في الجانب الوظيفي من الظاهرات التي تبدو فولكلورية صرفة في الظاهر (الأزياء، الفنون الشعبية، الاحتفال بالأعياد…) ولكنها تكشف عن أغراض وظيفية نفعية ذات صلة مباشرة بالتأقلم مع البيئة، وعادات العمل، والحاجات الموضوعية، وتطوير نوعية الحياة المادية.

3 ـ التركيز على إقامة الرابطة بين البُعد الفلسطيني المحلي والأبعاد الأعرض (العربية والإسلامية والمتوسطية) لمختلف الظاهرات التي يدرسها ميدانياً. ففي دراسته للطلاسم، على سبيل المثال، كان كنعان يتعمد اختيار الأمثلة التي تبرهن على وجود جذور عميقة تشدّ الطلسم الفلسطيني إلى الموروث الروحي والتاريخي والبصري التشكيلي العربي، ثم والشرق أوسطي، فالمتوسطي.
4 ـ إبراز الخلفية التاريخية للظاهرات الأنثروبولوجية، بما يشدد دائماً على خصوصية الهوية الفلسطينية من جهة، والإمتزاج الغنيّ الذي اكتنفها على مرّ العصور، فمثّل بذلك حضارات وثقافات وديانات المنطقة، وتلك التي وفدت إليها مع مختلف الغزوات الخارجية.
ونشاطات توفيق كنعان البحثية امتدت إلى الدراسات الجغرافية والطبوغرافية والأركيولوجية والمعمارية، فكتب العديد من المقالات حول طرق القوافل العربية الفلسطينية، وأهمية منطقة النقب في التكوين الجغرافي والتاريخي والاقتصادي لفلسطين قديماً وحديثاً، وطبوغرافية البتراء وخصوصيتها الأركيولوجية، وعمارة البيت الفلسطيني التقليدي، والأنساق المعمارية للمزارات الإسلامية ودلالاتها الروحية.
وتبقى إشارة إلى الجانب النضالي في شخصية هذا الرجل الفذّ، أقدم طبيب عربي في مدينة القدس، والأنثروبولوجي الرائد الأول بلا منازع. وهذا، بدوره جانب حافل ومشرّف، سواء على صعيد التأليف والكتابة باللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية، أو على صعيد التعرّض للقمع المباشر جرّاء الانخراط في النضال العلني.
" توفيق كنعان |
وفي مقال نشره عام 1936 في صحيفة Daily Mail البريطانية عبّر كنعان عن خيبة أمل العرب (وخصوصاً المسيحيين الفلسطينيين المثقفين منهم) في بريطانيا، وقال: ومن دواعي العجب أنّ كلّ عربي، مسلماً كان أو مسيحياً، بدوياً أو فلاحاً أو مدنياً، متعلماً أو أمياً، أخذ يشعر بأن هذه السياسة (البريطانية) الظالمة تتهدد حياته ووجوده نفسه. ومن عجب أنّ كلّ واحد قد أصبح يمقت هذه السياسة غير الإنسانية ويعمل كلّ ما في وسعه لتغييرها.
ولم تكن مفارقة كبيرة أن يقتسم الطبيب والأنثروبولوجي والمؤرّخ المسيحي التهمة ذاتها مع الحاج أمين الحسيني… المسلم والشيخ ومفتي القدس. وهاهنا أيضاً عثر توفيق كنعان على دليل إضافي لحقيقة كان يعرفها وكتب فيها الكثير: أنّ فلسطين ليست بالأرض الخراب المهجورة، وأنّ الفلسطيني الواحد المتعدد موجود… بمزدوجات أو من دونها!