بندلي صليبا الجوزي.. علامة يستكشف التراث العربي والإسلامي
25/5/2008
مستقبل الإسلام في روسيا تناوله الجوزي عام 1917 وهو من الرواد في ذلك (الفرنسية-أرشيف)
بين فلسطين وأذربيجان عشرات الآلاف من الأميال، وبينهما فسيفساء معقّدة متنافرة من الثقافات واللغات والحضارات والتواريخ. ولكنّ هذا التباعد انقلب إلى حلقة اتصال واحدة حيّة انطلقت ذات يوم من شواطئ المتوسط، فقطعت «قوس الإسلام التاريخي» في قلب آسيا، وتوقفت في باكو على شواطئ بحر قزوين.
كان الأديب والفيلسوف والعلاّمة والمؤرّخ الفلسطيني بندلي صليبا الجوزي (1871ـ1942) هو الرحّالة الذي اختزل التباعد وأقام الصلة، وكان التراث الإسلامي والعربي هو محتوى هذه الرحلة الاستثنائية.
وثمة أقدار عجيبة هنا. لقد ولد الجوزي في القدس لأسرة مسيحية أرثوذكسية، وتلقى تعليمه الأول في مدارس مسيحية (كلية «دير المصلبة» في القدس، ثم مدرسة "كفتين" الأرثوذكسية في طرابلس)، ثم أُرسل إلى موسكو عام 1891 لكي يدرس اللاهوت ويعود إلى بلاده وأهله كاهناً.
بعد 18 عاماً سيعود بندلي إلى فلسطين بالفعل، ولكن ليس في مسوح الكاهن، بل في ثياب الأستاذ الجامعي الذي يقود فريقاً من الطلبة الروس القادمين للقيام بدراسات ميدانية في تاريخ الشرق الأوسط القديم والإسلام.
اللاهوت والفلسفة
كان بندلي قد صرف ثلاث سنوات في دراسة اللاهوت حين اجتذبته الماركسية (كما قرأها وبشّر بها بليخانوف آنذاك)، واستولت عليه القراءة المادية للتاريخ، فقطع دراسة اللاهوت وانتسب إلى جامعة قازان، وتقدّم بأطروحة ماجستير ثورية في موضوعها ومنهجها «المعتزلة والبحث الكلامي التاريخي في الإسلام».
إعلان
ذلك كان الطور الأول المبكّر لولادة مؤرّخ غير مألوف في حقل الدراسات التاريخية العربية، يسخّر مناهج البحث المادية لكي يرسم صورة التواريخ الإجتماعية والاقتصادية والأسطورية والرمزية وراء التاريخ الفكري التقليدي الذي لم يكن يبدو بالغ التعقيد.
منهجية الجوزي في بحث التراث لم تكن مسبوقة في عصره (الجزيرة نت-أرشيف)
ولكي يرى حركة المجتمع وتصارع الجماعات وراء مختلف ظواهر التراث الإسلامي والعربي، بدءاً بالمذاهب والفِرَق والحركات السرية، وانتهاء بالنصوص الدينية والمصادر التاريخية، مروراً بمسائل سوسيولوجية وأنثروبولوجية بدَتْ غريبة الوقع وغير مسبوقة آنذاك: تاريخ العائلة، الأمومة، تاريخ الأوبئة، الكوارث الجماعية، وغيرها.
وبفضل دراسات الجوزي انخرط العرب في قراءات جديدة لحركات المعتزلة، والقرامطة، والزنج، والإسماعيلية، وإخوان الصفا، وبفضله تنبهوا إلى نقد جدّي رصين (وغير بعيد عن أن يكون الأول من نوعه في اللغة العربية) لمختلف مدارس الاستشراق الغربي حول الشرق الأوسط القديم، وحول الإسلام بصفة خاصة.
ومن الإنصاف القول هنا إن دراسات بندلي الجوزي في هذا الميدان بالذات كانت رائدة وشجاعة واستشرافية، بالنظر إلى السطوة الكبرى التي كان المستشرقون يتمتعون بها آنذاك، وما كانوا يحظون به من دعم مطلق توفّره المؤسسات الحكومية الكولونيالية.
نقد منهجي
ولم يكن بالأمر المألوف أن يكتب الجوزي، وفي عام 1928: "إن هؤلاء المؤرّخين [الغربيين] بنوا أحكامهم على تاريخ الغرب وحده، إذ لم يكونوا يعرفون من تاريخ الشرق إلا الشيء اليسير. سهل علينا والحالة هذه أن ندرك مقدار ما في أقوال بعض مؤرخي الغرب عن الشرق وتاريخه من الغرابة والطيش. فهل من طيش أكبر من أن يقول أحدهم إنه لم يكن ولن يكون للأمم الشرقية تاريخ بمعنى هذه الكلمة المعروف بين علماء أوروبا".
إعلان
ويتابع الجوزي "وإن أساليب البحث التاريخي التي وضعها علماء الغرب لا يمكن أن تطبّق على تاريخ الشرق. وأية غرابة أو بالأحرى أي جهل أعظم من أن يقال إن العوامل المؤثرة في تاريخ الأمم الأوروبية، والنواميس العمومية الفاعلة في حياتهم الاجتماعية هي غير العوامل والنواميس العاملة في تاريخ الأمم الشرقية وحياتهم وثقافتهم".
إنه النقاش النقدي الذي سيطلقه إدوارد سعيد في كتابه «الاستشراق»، بعد نحو نصف قرن، وبالعمق الأقصى اللائق بالأطوار الأحدث من تاريخ العلاقة بين المؤسسة الاستشراقية من جهة، والمؤسسات الكولونيالية الإمبراطورية والإمبريالية من جهة ثانية.
وإذا كان الجوزي قد انساق وراء التحليل الماركسي الدوغمائي الذي يجزم بأن شعوب الشرق سوف تمرّ بنفس المراحل التي مرّت بها شعوب الغرب (أي التشكيلات الاجتماعية المتعاقبة: المشاعة البدائية، الرقّ، الإقطاع، البرجوازية، …)، فإنّ من المدهش توصّله، وفي العقد الثاني من هذا القرن، إلى إيضاح الفَصْل المفهوميّ، الزائف والمتخيّل، بين الشرق والغرب.
وفي هذا الصدد يقول الجوزي «إنّ تاريخ الشرق وحياته الاجتماعية وعقلية شعوبه على الإطلاق، والشعوب الإسلامية على الأخص، تخضع لنفس النواميس والعوامل التي تخضع لها حياة وتاريخ الأمم الغربية، وإن أمم الشرق قطعت في حياتها الطويلة، وستقطع ذات المراحل أو الأدوار الاجتماعية التي قطعتها الأمم الغربية. فلا فرق إذن من هذا الوجه بين الشرق والغرب، ولا تفوّق طبيعياً لأحدهما على الآخر».
الشرق والغرب درس الجوزي اللغة العربية بجامعة باكو الأذرية في الثلاثينيات (الجزيرة نت)
وفي حياته العملية والأكاديمية اجتهد بندلي الجوزي كي يقرّب المسافات بين الشرق والغرب، وفعل ذلك على نحو منهجي حين حاضر مراراً في تاريخ شعوب الشرق في جامعة قازان، ثم تولّى كرسي اللغة العربية وآدابها في جامعة باكو الدولية، ثم كرسي تاريخ الشرق الإسلامي، ورئاسة القسم العربي بفرع أكاديمية العلوم في أذربيجان أعوام 1930-1933.
ولأن مهمة كهذه تقتضي معرفة الآخر مثل معرفة الذات، فقد قرأ الجوزي نصوص الحضارات الغربية بلغاتها، وكان يتقن الفرنسية والإنجليزية والألمانية والروسية واليونانية من جهة، والعربية والسريانية والعبرية والتركية والفارسية والأذربيجانية من جهة ثانية.
إعلان
ومثلما وضع مؤلفات من نوع «محمّد المكّي ومحمد المدني» (1903)، و«تاريخ كنيسة أورشليم» (1910)، و«البحث في القرآن» و«جبل لبنان تاريخه وحالته الحاضرة» (1914)، و«تاريخ حياة الفارابي وتلخيص نظامه الفلسفي» (1933)؛ كذلك وضع مؤلفات تعرّف بالآخر وبثقافته وحضارته، مثل «تحفة العروس في لغة الروس» (1903)؛ و«المسلمون في روسيا ومستقبلهم» (1917)؛ و«العلاقات الأنجلو مصرية» (1930).
وضمن التوجّه ذاته ترجم الجوزي إلى العربية أعمالاً لعدد من المستشرقين الغربيين (أبرزها، ربما، كتاب نولدكه «أمراء غسان» بالتعاون مع العلامة قسطنطين زريق)، كما ترجم الكثير من الأعمال العربية إلى الروسية، بينها «فتوح البلدان» للبلاذري، و«تاريخ اليعقوبي»، و«تاريخ أذربيجان» لابن الأثير.
وتوفي بندلي صليبا الجوزي قبل أن يشهد قيام دولة إسرائيل، وكانت إقامته في باكو النائية تبعده عن النشاط السياسي والفكري ذي الصلة المباشرة بتطورات القضية الفلسطينية. ولكنه زار فلسطين ثلاث مرات، تعرّض في إحداها إلى اضطهاد السلطات العثمانية. كما رافق صديقه الأديب والمربّي خليل السكاكيني في رحلة إلى القاهرة، واظب بعدها على كتابة مقالات دورية في الصحف المصرية جعلته على صلة حيوية بالقارئ العربي والهموم العربية.
ومؤرّخ من نوع الجوزي، وفي إطار مقارباته المادية للتراث والتاريخ الإسلاميين، ما كان له أن يتغافل عن ضرورات ممارسة التحليل النقدي للذات الثقافية والحضارية.
التسامح والتعددية
" الأمة العربية تتحفز اليوم للدخول في دور جديد من حياتها التاريخية الطويلة، نأمل أن تستعيد فيها وحدتها القومية المنشودة وتوحّد كلمتها المفقودة، التي فرقتها شتّى العوامل بين داخلية وخارجية
بندلي الجوزي "
ومنذ عام 1929 أثار مسائل حساسة حول التسامح والتعددية، وحذّر من أخطار التعصّب القومي والديني، وكتب يقول "الأمة العربية تتحفز اليوم للدخول في دور جديد من حياتها التاريخية الطويلة، نأمل أن تستعيد فيها وحدتها القومية المنشودة وتوحّد كلمتها المفقودة، التي فرقتها شتّى العوامل بين داخلية وخارجية، كسياسة أجدادها الاقتصادية الخرقاء، وغارات علوج آسيا الوسطى ومنغوليا المتواصلة، وسموم التعصب الديني المبني على الجهل بحقيقة الدين ومطالبه، والعصبية القومية المتطرفة، والنزوع الدائم إلى نظام البداوة وعيشة القبائل المتأصلة في طباعهم أجيالاً، إلى غير ذلك من الأسباب التي لا يخلو منها تاريخ أمة عظيمة كان لها شأن خطير في تاريخ الإنسانية".
إعلان
وأيّاً كانت التفسيرات وراء هذه الأقدار العجيبة لرحلة استثنائية قطعها فلسطيني مسيحي أرثوذكسي من شواطئ المتوسط إلى شواطئ بحر قزوين، وكانت القراءة المادية اللامعة والتجديدية للتراث الإسلامي العربي هي حصيلتها الفذّة، فإن عبقرية فلسطين المكان والتاريخ والهوية الحضارية لا يمكن لها إلا أن تكون في صلب تلك التفسيرات.
ألا يدور بعض جوهر هذه العبقرية حول الفارق بين بندلي صليبي الجوزي الذي كان من الممكن أن يدرس اللاهوت ويعود إلى بلده فلسطين لكي ينزوي كاهناً في كنيسة ما، وبين بندلي صليبا الجوزي الأديب والعلاّمة والمؤرّخ الكبير؟