"الغسل الأخضر".. تضليل مناخي ممنهج تنعشه عودة الرئيس ترامب

انبعاثات ثاني أكسيد الكربون هي المحرك الرئيسي لتغير المناخ العالمي (غيتي)
انبعاثات ثاني أكسيد الكربون هي المحرك الرئيسي لتغير المناخ العالمي (غيتي)
انبعاثات ثاني أكسيد الكربون تعد سببا رئيسيا للتغيرات المناخية العالمية (غيتي)
انبعاثات ثاني أكسيد الكربون تعد سببا رئيسيا للتغيرات المناخية العالمية (غيتي)

تتوقع منظمة غلوبال ويتنس أن تشتد حملات التضليل المناخي أكثر من أي وقت مضى في عام 2025، بناء على الاتجاهات العامة التي لوحظت في عام 2024، بشأن الأحداث المناخية أو بعد تصريحات وقرارات الرئيس دونالد ترامب عن قضية المناخ والوقود الأحفوري.

وأشارت المنظمة غير الحكومية، التي تهتم برصد حملات التضليل إلى أن عداء الإدارة الأميركية الجديدة للعمل المناخي يتزامن مع الربحية المتزايدة التي تدرها عمليات إنكار تغيّر المناخ لبعض الشركات. كما أن منصات مثل "غوغل" و"ميتا" -بحسبها- سهلت توليد إيرادات كبيرة لمواقع مختلفة، على الرغم من توجهات تتبناها ضد إعلانات إنكار تغير المناخ.

وتؤكد المنظمة أنه مع إنهاء شركة ميتا عمليات تدقيق الحقائق في الولايات المتحدة، ووجود عدد أقل من الضمانات لتعديل المحتوى، من المتوقع أن تزدهر المعلومات المضللة المتعلقة بالمناخ، خاصة وأن الذكاء الاصطناعي يجعل إنتاج المحتوى الكاذب والمضلل أسهل.

وتعرّف منظمة الأمم المتحدة  التضليل البيئي المعروف بـ "الغسل الأخضر" على أنه ترويج بعض الأطراف، سواء شركات أو حكومات، لحلول أو إجراءات زائفة لمواجهة تغير المناخ لصرف الانتباه عن الإجراءات الملموسة والفعالة، وأن تعطي انطباعا كاذبا أو مضللا عن مسؤوليتها البيئية من خلال التسويق أو الإعلانات.

إدارة الرئيس ترامب انسحبت من اتفاقية باريس للمناخ ووسعت الاعتماد على الوقود الأحفوري (الفرنسية)

النكوص الأميركي

خلال ولايته، الأولى قرر الرئيس دونالد ترامب انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية باريس للمناخ التي تعد ركيزة أساسية للاستجابة العالمية لخطر تغير المناخ، لكن مع تولي جو بايدن الرئاسة قرر العودة رسميا إلى الاتفاق، وفي فترة ولايته الثانية أعاد ترامب الانسحاب من المعاهدة التي تستهدف الحد من الاحتباس الحراري، معتبرا أنه "خدعة"، وهو ما سيؤثر على إجراءات مكافحة عوامل التغير المناخي في الولايات المتحدة والعالم بأسره.

كما أصدر الرئيس الأميركي سلسلة من الأوامر التنفيذية لتعزيز توسيع إنتاج الوقود الأحفوري (النفط والغاز) وإلغاء الحماية البيئية، قائلا في خطاب تنصيبه: "سيكون لدينا أكبر كمية من النفط والغاز مقارنة بأي بلد على وجه الأرض، وسوف نستخدمها.. الحفر يا عزيزي الحفر".

وتشير التقارير إلى أن انسحاب الولايات المتحدة من المعاهدة وسياسات ترامب البيئية عزز الشكوك والمعلومات المضللة والمغلوطة عن التغير المناخي. وكشفت منظمة "العمل المناخي ضد المعلومات المضللة"، التي تعنى بمراقبة المحتوى المناخي، عن تزايد وتيرة التغريدات المنكرة لظاهرة تغير المناخ بعد استحواذ الملياردير إيلون ماسك عام 2022 على منصة "إكس" (تويتر حاليا). ويعتبر ماسك من أبرز أركان إدارة الرئيس ترامب الجديدة.

وخلال الفترة الرئاسية الأولى للرئيس ترامب، اتخذ موقفا معاديا لمصادر الطاقة المتجددة وشكك في علوم المناخ ومظاهر تطرفه وتأثيرها، فباتت المعلومات المضللة أكثر انتشارا وتأثيرا في صنع السياسات العامة المناخية في العديد من دول العالم.

وحسب تعريف الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ، تشير المعلومات المضللة حول المناخ إلى نشر معلومات غير دقيقة عن طبيعة التغير المناخي، والتي قد تنشأ عن خطأ بشري، بينما يكون التضليل المناخي مدفوعا بنية متعمدة لنشر معلومات كاذبة وبغض النظر عن النية، وتكون لتلك المعلومات المضللة علميا آثار سلبية على سياسة المناخ المحلية والعالمية.

ويصنف تقرير المخاطر العالمية لعام 2024 المعلومات المضللة والمغلوطة (عموما) على أنها أكبر خطر قصير الأجل يهدد المجتمع البشري، ومكافحة التغيرات المناخية باعتبارها كخطر طويل الأجل، ما يعني أن إخفاء الحقائق عن تغير المناخ يمكن أن يكون ضارا للغاية. ويتفاقم الأمر بسبب أن المعلومات الكاذبة أكثر عرضة لإعادة مشاركتها بشكل كبير من الحقائق خصوصا على منصات التواصل الاجتماعي.

Pollution and food and toxic pollutants in nutrition as eating a contaminated meal as a fork with industrial toxins or climate change affects on the body with 3D illustration elements.
النزعة الاستهلاكية المرتبطة بالمصالح التجارية للشركات الكبرى أدت إلى التغيرات المناخية (شترستوك)

النفعية والرفاهية

وتتضمن عمليات التضليل تقديم ادعاءات سطحية أو مبالغ فيها عن الاستدامة أو صداقة البيئة أو الفوائد البيئية لمنتج أو خدمة أو ممارسات تجارية معينة، دون أن يكون لها تأثير إيجابي حقيقي وكبير على البيئة.

وحسب تقرير جديد لمؤسسة"ريب ريسك" (RepRisk) للبيانات البيئية والاجتماعية ارتفعت عمليات "الغسل الأخضر"عام 2023 خصوصا من قبل بنوك وشركات خدمات مالية معظمها أروببة، مقابل انخفاضها عام 2024، وذكرت معظم هذه العملية الوقود الأحفوري أو كانت لها علاقة بمؤسسة مالية بشركات النفط والغاز، التي حلت في المرتبة الثانية، في ممارسة "الغسل الأخضر".

وكان الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش قد قال في مؤتمر المناخ (كوب 27) بشرم الشيخ المصرية عام 2022: "إن صناعة الوقود الأحفوري لا تزال منذ عقود تستثمر في تشويه العلوم، وتنظيم حملات العلاقات العامة لسرد الأكاذيب بهدف التنصل من مسؤولياتهم عن تغير المناخ"، مشبها تلك المقاربة بـ "التكتيكات الفاضحة لشركات التبغ".

وإضافة إلى شركات النفط والغاز، يشير غوتيريش أيضا إلى إخفاء شركات تبغ أميركية عملاقة في خمسينيات القرن الماضي مضار التدخين، واعتمادها أساليب ملتوية في الدعاية لطمس الحقائق العلمية المثبتة عن ذلك، حين ركزت إعلاناتها على زرع الشكوك في أذهان الجمهور(المستهلكين) بهدف ضمان استمرارهم في استهلاك منتجاتها من التبغ.

ومنذ أواخر السبعينيات، اُتهمت شركات الوقود الأحفوري الكبرى وكذلك "الائتلاف العالمي للمناخ" (GCC)، كواجهة للشركات الكبرى العاملة بصناعة الوقود الأحفوري -حُلّ في عام 2002- بالعمل على "تشويه سمعة علم المناخ" أو إخفاء الاستثمارات المستمرة في الوقود الأحفوري عبر وسائل الضغط السياسي والإعلانات أو ما يعرف باسم "الغسل الأخضر".

ودافع الائتلاف كمجموعة ضغط نشطة عن الوقود الأحفوري وعارض الأدلة العلمية عن تأثيراته، وشن حملة على اللوائح والسياسات الرامية إلى الحد من انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري، كما نشط في معارضة اتفاقية كيوتو، ولعب دورا في منع موافقة الولايات المتحدة عليها.

وتشير بعض التقديرات إلى أن شركات الوقود الأحفوري تساهم بنحو 62% من جميع انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، كما أدّى الوقود الذي أنتجته أكبر 20 شركة خلال الفترة 1965-2017 إلى إطلاق 480 مليار طن من ثاني أوكسيد الكربون والميثان. وأكبر الشركات المساهمة في هذه الانبعاثات هي "أرامكو"، و"شيفرون"، و"غازبروم"، و"إكسون موبيل"، و"بريتش بتروليوم" (بي بي) و"شل".

وأصدرت جامعة هارفارد الأميركية بالاشتراك مع مركز أبحاث الطاقة والمناخ ومقره لندن ثلاثة أبحاث استندت إلى تحليل معمق للحملات الإعلانية والإعلامية التي نظمتها خمس شركات كبرى في العام 2021، وهي "بي بي"، و"شيفرون"، و"إكسون موبيل"، و"شل"، و"توتال إنيرجيز" وأظهرت أن 60% من أصل 3421 عنصرا من المواد الاتصالية في تلك الحملات كانت تحتوي على ادعاء واحد على الأقل يُصنف ضمن "الغسل الأخضر".

أنطونيو غوتيريش حذر من مخاطر حملات التضليل المناخي على الالتزامات البيئية العالمية (وكالة الأناضول)

مخاطر التضليل

وتلجأ الشركات الكبرى -في مجمل القطاعات المضرة بالبيئة- إلى "الغسل الأخضر"  أيضا من خلال إثبات التزامها بمكافحة تغير المناخ باستثمارات ومنتجات تبدو صديقة للبيئة، أو الترويج لاستخدام مواد متوافقة مع المعايير البيئية إلى حد ما.

وتتنافى المعلومات المضللة والزائفة التي تروجها الشركات الكبرى مع الثوابت العلمية عن أسباب التغيّر المناخي وآثاره، ومع ذلك تؤدي تلك المعلومات بشكل ما إلى تشكيل تصورات شعبية خاطئة عن التغير المناخي وخطورته، وتربك بناء استجابة واسعة وموحّدة للتعامل مع هذه الأزمة حسب الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ.

تعمل تلك السرديات المضللة المبنية على مصالح تجارية إلى الدفع بمعطيات وسرديات زائفة لتشكيل وعي مخالف أو متشكك، ومن أهمها أن التغير المناخي هو من فعل الفرد المستهلك وليس المؤسسات أو الشركات، كما تروج أن تغيّر المناخ هو في النهاية مجرد دورة طبيعية  لها بداية ونهاية.

وتدفع تلك الأطراف المناهضة للالتزام البيئي كذلك بسردية عدم وجود إجماع علمي عالمي على مسألة تغير المناخ، وأن التأثيرات المناخية ستحتاج إلى وقت وأجيال وربما قرونا كي تكون مؤثرة فعليا.

وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2024 أطلقت منظمة الأمم المتحدة والبرازيل "المبادرة الدولية لنزاهة المعلومات حول تغير المناخ" لتعزيز الأبحاث وجهود التصدي للتضليل الذي يهدف إلى تأخير وتقويض العمل المناخي، تحضيرا لمؤتمر الأمم المتحدة الثلاثين للمناخ (كوب-30) المقرر في البرازيل.

وقالت وكيلة الأمين العام للتواصل العالمي ميليسا فليمينغ إن الدول التي ستعلن التزامها بالمبادرة ستساهم في صندوق تديره منظمة اليونسكو بهدف جمع تمويل أولي يتراوح بين 10 ملايين و15 مليون دولار.

ومن المفترض أن يتم توزيع هذا التمويل في شكل منح على منظمات غير حكومية لدعم عملها في مجال نزاهة المعلومات بشأن المناخ، وتطوير إستراتيجيات تواصل وتنفيذ حملات عامة لرفع الوعي، ومحاربة  التضليل المرتبط بالمناخ المنتشر على وسائل التواصل الاجتماعي.

تنبع حملات التضليل عن المناخ أساسا من خلفيات تجارية واقتصادية نفعية بحتة قد تكن لها عواقب وخيمة على كوكب الأرض وعلى البشرية التي تقف "أمام خيار التعاون أو الهلاك، فإما يكون عهدا على التضامن المناخي أو عهدا على الانتحار الجماعي"، حسب الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش.

المصدر : الجزيرة + الصحافة الأميركية