البحر الأبيض المتوسط.. قصة الحضارة

خريطة البحر الأبيض المتوسط
البحر الأبيض المتوسط يشهد سنويا غرق العشرات من الساعين للهجرة غير النظامية إلى أوروبا (أسوشيتد برس)

"البحر الأبيض المتوسط" مسطح مائي محصور بين قارات العالم القديم الثلاث (أفريقيا وآسيا وأوروبا)؛ تبلغ مساحته 2.5 مليون كلم مربع، وقامت حوله حضاراتٌ بشرية عريقة قادت العالم قرونا طويلة ظل خلالها وما زال أهم الممرات المائية، وتمر عبره أهم طرق التجارة الدولية فضلا عن قيمته الإستراتيجية الكبيرة.

البنية الجيولوجية
يتشكل البحر المتوسط من حوضين رئيسيين تفصل بينهما سلسلة صخرية تُعرف بالعتبة (أو النتوء) الصقلية/التونسية، لا يتجاوز عمق المياه فيها 400 متر مقابل 4000 متر هي متوسط العمق في الحوضين الشرقي والغربي. ويبلغ طول هذه العتبة 140 كيلومترا، وحدّاها هما رأس بونْ في صقلية ومرسالة بتونس.

ويتصل الحوض الغربي بالمحيط الأطلسي عبر مضيق جبل طارق الذي يفصل أفريقيا عن أوروبا، ويضيقُ في نواحي مدينة طنجة المغربية إلى أنْ تُصبح المسافة بين الساحلين المغربي والإسباني لا تكاد تتجاوز 14 كيلومترا مع عمق يتراوح بين 100 و1500 متر.

ينفتح الحوض الغربي شمالا على البحر التيراني المحصور بين البلقان وجزر كورسيكا وسردينيا، وتنتصب في هذه المنطقة سلسلة جبال بركان تتميز بعمق مياهها الذي يصل إلى أكثر من 3700 متر، في حين يقل عمق المياه غربا باتجاه جزر البليار الإسبانية ليكون في حدود 2800 متر.

أما الحوض الشرقي فيمتد من العتبة التونسية/الصقلية غربا إلى شواطئ الشام شرقا، ويُمكن تقسيمه إلى حوضين يُدعى الغربي منهما الحوض الأيوني (نسبة إلى البحر الأيوني المتاخم للبلقان)، ويُسمى الثاني الحوض الشامي.

ويتميز الحوض الشرقي بوجود سلسلة صخرية تمتد من كلبريا في جنوبي إيطاليا إلى جزيرة قبرص، ويبلغ طولها 1900 كيلومتر وعرضها 200 كيلومتر، وتنتهي هذه السلسلة جنوبا بسهل شديد الانحدار يصب فيه نهرُ النيل. ويتراوح عمق المياه في هذا الحوض بين 3000 و5000 متر.

تمثل مساحة البحر المتوسط نسبة 1% من إجمالي مساحة المسطحات المائية في العالم، ويمتد شرقا وشمالا بسبب منحدر البحر الأدرياتيكي الممتد بين إيطاليا والبلقان، كما يمتد إلى الشمال الشرقي عبر مضيقيْ البوسفور والدردنيل ليصل إلى تخوم البحر الأسود، الذي يحسبه جيولوجيون جزءا من حوض البحر المتوسط وامتدادا له.

ويتميز المتوسط من الناحية الجيوفيزيائية بانحدار سهوله الشديد من الشواطئ إلى عمق المياه، إذ تتباين مستويات عمق المياه بشكل كبير بين السواحل والمناطق القريبة منها، ويُفسر جيولوجيون هذه الظاهرة بكون أغلب سواحل هذا البحر جبلية.

تاريخ ومخاطر
ارتبط البحر المتوسط ارتباطا وثيقا بتاريخ الحضارات الإنسانية، فهو ملاصق لأرض مهبط الرسالات السماوية الموجودة إلى الشرق منه، كما أن أقدم الحضارات الإنسانية قامت حوله، مثل الحضارة البابلية والآشورية والمصرية والإغريقية ثم الفارسية والرومانية فالإسلامية، فالحضارة الغربية التي تقود العالم اليوم.

وهكذا ظل المتوسط قرونا طويلة مركز العالم والبحر الوحيد تقريبا المزدهر تجارياً وإستراتيجياً، نظرا لمحدودية التجارة العالمية وضعف وسائل النقل البحري في التاريخ القديم، وأيضا لتوسط هذا البحر قارات العالم القديم.

اكتسب البحر المتوسط أهمية إستراتيجية كبيرة منذ فجر التاريخ، وظلت مضائقه (جبل طارق والبوسفور والدردنيل) موضع صراع بين الدول والأمم الساعية للسيطرة على العالم، فكانت ممرات حيوية للجيوش وللهجرات عبر العالم، وهو ما يُفسر التنوع العرقي واللغوي والديني والثقافي والحضاري الهائل لحوض المتوسط، مما جعل مؤرخين وعلماء اجتماع يسمونه "مركز العالم".

ومع اكتشاف العالم الجديد (الأميركتان الشمالية والجنوبية) في نهاية القرن 15 الميلادي، زادت أهمية البحر المتوسط -رغم صغر مساحته- وصار "مركز العالم" بحق خاصة مع ازدهار التجارة الدولية لا سيما بعد إتمام حفر قناة السويس (عام 1869 ميلادي) التي ضمنت تواصلا بحريا بين المتوسط والبحر الأحمر.

ولا تزال أهمية المتوسط الإستراتيجية قائمة رغم تطور وسائل النقل وازدهار أرجاء العالم البعيدة مثل الأميركتين وآسيا وأستراليا. فأكثر من 30% من السفن الموجودة في بحار العالم تُبحر في حوض المتوسط و40% من حاملات النفط تمر عبره، بسبب جواره لمنطقة الشرق الأوسط التي تُصدر أكثر من 70% من النفط والغاز العالمي.

تستقطب الدول المتوسطية أكثر من 200 مليون زائر سنويا. وعلى المستوى الإستراتيجي تسعى كل القوى الكبرى لحيازة موطئ قدم لها في حوض المتوسط، سواء بإقامة قاعدة عسكرية أو مركز مراقبة فضائية أو مركز تنصت للتجسس.

يُعتبر حوض المتوسط من أكثر مناطق العالم تنوعا بيئيا، أما المناخ المتوسطي فهو أكثر مناخات العالم اعتدالا وملاءمة للأنشطة التجارية والإنتاجية، نظرا لحرارته المعتدلة وفصوله المتوازنة ومعدلات أمطاره المتوسطة.

إلا أن البحر المتوسط يُواجه خطر التلوث؛ إذ تُشير دراسة أنجِزت عام 2015 إلى أنه يحتوي أكثر من 250 مليار قطعة بلاستيك تتقاذفها الأمواج والتيارات البحرية وبعضها يجثم في أعماقه، وهو ما يُشكل تهديدا حقيقيا للبيئة البحرية نظرا لشدة تلويث البلاستيك للطبيعة وللفترات الطويلة التي يُقضيها فيها والتي تتراوح بين 400 و1000 سنة.

يُعاني المتوسط كذلك من التلوث الناتج عن مرور حاملات النفط، فهذه السفن الضخمة تُفرغ أكثر من 200 ألف طن من المحروقات في شواطئ المتوسط كل سنة.

المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية