شعار قسم مدونات

لماذا دُمّرت قرطاج؟

blogs حصار قرطاج

يجب تدمير قرطاج! Carthago delenda est هذه الجملة المشؤومة التي ألقاها كاتو الكبير أمام مجلس الشيوخ الروماني كانت بمثابة إعلان عن نهاية الإمبراطورية القرطاجية. هذا التدمير شكّل نقطة تحول مهمة لمسار التاريخ القديم الذي انتقل من عالم ثُنائي الأقطاب إلى عالم أحادي القطب كرّس الإمبراطورية الرومانية كقوة مسيطرة على العالم لمدة قرون.

قرار تدمير قرطاج لم يُتَّخذ مباشرة بعد معركة زاما الشهيرة التي انتصرت فيها روما وحليفها ماسينيسا ملك نوميديا، بل لقد تركت روما ماسينيسا طيلة أربعين سنة يتصارع مع القرطاجيين لكي يسترجع أراضي أسلافه التي استولى عليها القرطاجيون، وهي بذلك تريد أن يطول الصراع بين الطرفين لاستنزاف قواهما. 

بعد أن توسعت مملكته واشتد عودها، بدأ ماسينيسا في التفكير بتوحيد شمال إفريقيا كليا تحت راية نوميديا وإنهاء النفوذ الروماني، وكذا ظُلم الأوليغارشية القرطاجية طبقا لشعاره: إفريقيا للأفارقة. يقول المؤرخ غبريال كامبس: "فقد نجح ماسينيسا في إنشاء حزب في قرطاج تلقّى الدعم السياسي حتّى داخل قرطاج ذاتها ولكن وفجأة كأنّ المدينة تستفيق حيث تمّ إبعاد أنصار ماسينيسا، وكان ردّ هذا الأخير هو إرسال ميكيبسا وأخيه الأصغر قولوسا إلى قرطاج لتقديم احتجاج، لكن دون طائل، وفي طريق عودتهما تعرّضت القوّة المرافقة لهما إلى هجوم فقرّر ماسينيسا حصار أوروسكوب" (ماسينيسا أو بدايات التاريخ).

بعد هذه الحادثة نشبت حرب بين ماسينيسا وقرطاج تغلب فيها الملك النوميدي، فتدخّل مجلس الشيوخ الروماني وأرسل لجنة للتحقيق يرأسها كاتو الكبير سنة 155 قبل الميلاد. عندما وصل كاتو الكبير إلى إفريقيا وقف على ازدهار التجارة في قرطاج وتكدس السلع في موانئها رغم الضرائب التي كانت تأدّيها لروما سنويا، كما نصّت عليه معاهدة استسلامها بعد معركة زاما. كما وقف مبعوث مجلس الشيوخ الروماني على أطماع ماسينيسا في السيطرة على مدينة قرطاج في ظل تفكك الأرستقراطية القرطاجية واهتمامها بمصالحها الفئوية فقط. 

قرار كاتو بتدمير قرطاج جاء لمنع تشكّل مملكة قوية توحّد كامل شمال إفريقيا وتُهدّد وجود الإمبراطورية الرومانية
قرار كاتو بتدمير قرطاج جاء لمنع تشكّل مملكة قوية توحّد كامل شمال إفريقيا وتُهدّد وجود الإمبراطورية الرومانية
 

عندما عاد كاتو إلى روما قرّر أن يقنع أعضاء مجلس الشيوخ بتدمير قرطاج لكي يحول دون تحقيق مشروع ماسينيسا الوِحدوي فدخل إلى المجلس حاملا معه حبات من التين قطفها من قرطاج. وبعد أن فرغ من خطابه رمى أمام أعضاء مجلس الشيوخ حبات التين التي لا تزال طازجة فأُعجبوا بها. فقال لهم: اعلموا أنني قطفت هذه الثمار الشهية منذ ثلاثة أيام فقط فهذه هي المسافة التي تفصلنا عن العدو. وختم خطابه بـ: "قرطاج يجب أن تُدمّر". ويذكر المؤرخون أن تدمير قرطاج أصبح هاجسا بالنسبة لكاتو الذي كان يختم جميع خطاباته مهما كان موضوعها بجملة: "لكنّ قرطاج يجب أن تُدمّر". وفي سنة 149 ق.م قرّر مجلس الشيوخ الروماني أخيرا تدمير مدينة قرطاج وأرسل جيشا كبيرا إلى إفريقيا، ذكر بعض المؤرخين أن ماسينيسا أظهر اعتراضه على تدمير قرطاج لكنّه مات بعد ذلك بقليل سنة 148 ق.م.(Encyclopædia Universalis) . 

لم تجد الجيوش الرومانية مقاومة كبيرة بعد وفاة ماسينيسا كما يقول الكاتب السوري جورج حدّاد: "حينما تقدم الجيش الروماني لمحاصرة قرطاجة وتدميرها سنة 149ق.م لم تجد السلطة الطبقية الغنية الخائنة في قرطاجة من الضروري وضع كل إمكانياتها في خدمة إعلان تعبئة عامة وتشكيل قوات دفاع وطنية كبيرة والخروج لملاقاة الجيش الروماني خارج أسوار المدينة، بل كان همّها العمل على إخفاء وتهريب ثرواتها (التي اكتشفها ونهبها الرومان لاحقا) وتركت الجيش الروماني يحاصر المدينة ويفرض عليها الحرمان والجوع والإستنزاف مدة ثلاث سنوات قبل أن يجتاحها ويدمرها تماما سنة 146ق.م." (مجلة تحوّلات اللبنانية العدد 88).

الخلاصة

لم تكن قرطاج بعد هزيمتها في معركة زاما تشكل خطرا عسكريا على روما لأنها لم تنجح في بناء جيش قوي بسبب سيطرة الطبقة الأوليغارشية التجارية على مقاليد الحكم والتي طغى عليها الطابع الدولي الكوسموبوليتي الذي يتعارض مع مفهوم الوطن. إن الخطر الأكبر على روما كان مشروع ماسينيسا وهو توحيد شمال إفريقيا تحت لواء المملكة النوميدية كما يُستفاد من شعاره: إفريقيا للأفارقة. فقرار كاتو بتدمير قرطاج جاء لمنع تشكّل مملكة قوية توحّد كامل شمال إفريقيا وتُهدّد وجود الإمبراطورية الرومانية. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.