شعار قسم مدونات

في مولد الهايد بارك

blogs الهايد بارك

"تسمع بالهايد بارك خيرٌ من أن تراها". هكذا قلت لنفسي بعد أن قضيت ساعات في الحديقة اللندنية، التي اكتسبت شهرتها من ركن الخطباء الذي ارتبط في أذهان الملايين بحرية التعبير التي لا تحدها حدود، والذي اخترت من أجله أن أسكن قريبا من "الهايد بارك" حين زرت لندن لأول مرة، قبل أن يتضح أنها أقل حدائق المدينة جمالا، فهي لا تقارن مثلا بـ"هولاند بارك" الأصغر حجما والأكثر روعة وخضرة، وحين أخبرت أصدقائي من قاطني لندن بانطباعاتي التي خشيت أن تكون متعجلة، وجدتهم يتفقون معي في الرأي، قائلين إن في "الهايد بارك" ركنين فقط يستحقان الزيارة: ركن ألعاب الأطفال المبهج الذي حمل اسم الأميرة المغدورة ديانا، وركن الخطباء الذي يمارس نشاطه نهار كل أحد في طرف الحديقة القريب من نُصب "ماربل آرش".

 

أوصاني صديق خبير بمصارين لندن، ألا أذهب إلى الركن في الصباح الباكر، لأن خطباءه يحتاجون فترة تسخين قبل وصول مرحلة "اللعلعة"، التي تبدأ عادة في الثانية عشرة ظهرا، لكنني حين وصلت إلى المكان في فترة اللعلعة المفترضة، بدا أصغر وأقل ازدحاما مما توقعت، وكان أول بختي فيه رجل عجوز يقف في كامل هندامه أعلى سُلّم خشبي من ثلاث درجات، مرتديا بابيونة حمراء، ومعلقا مظلة حمراء على ذراعه الأيسر، وهو يمسك بإنجيل يقرأ منه بصوت زاعق، وحين وقفت بجواره مباشرة، لم يرفع رأسه عن إنجيله ولو للحظة، بل استمر يقرأ بنفس الحماس الزاعق، ليتضح أن صعوده على السلم، ليس مرتبطا بإيصال صوته بعيدا، بل بمعنى ما في بطنه، حين حاولت معرفته بالسؤال، تجاهلني وصوّب نحوي نظرات مشمئزة، وحين هممت بتصويره، أشاح بيديه رافضا ومشيرا لي أن أبتعد، وهو يواصل قراءته العصبية، لأفهم سر بقائه وحيدا على السلم.

 

بعد قليل وجدت سُلّما آخر، ولكن من درجتين فقط، يقف عليه رجل أسمر كث اللحية، يرتدي طاقية بيضاء مزركشة وبدلة واسعة عليه، فوق قميص مقلم، ويمسك ملفا أزرق، ويتحدث بلغة لم أتبين ما إذا كانت أفريقية أم آسيوية، وإلى جواره يجلس رجل أسمر ضخم يضع عمامة سوداء، ويرتدي عباءة خضراء مزينة بنقوش بيضاء، فوق جلباب أبيض، ستدرك أنه في الحقيقة فستان واسع، حين ترى الحذاء النسائي عالي الكعب الذي كان يرتديه، كان يضع في حجره كتابا ضخما، ويبدو كأنه ينتظر انتهاء جاره من الحديث بفارغ الصبر، وحين قمت بتصوير الإثنين، لم ينظر أحدهما إليّ، بل واصل صاعد السلم الحديث وهو يحدق في الفراغ الأيسر بالتحديد، وواصل جاره الجلوس ناظرا في نفس الاتجاه، وحين عدت إليهما أكثر من مرة بعد ذلك، لأستمع إلى ما سيقوله ذو الكعب العالي، وجدت ذا الملف الأزرق مستمرا في حديثه المبهم، وذا الكعب العالي مستمرا في جلسته الغامضة، قبل أن يختفي الإثنان بعد قليل من المكان.

 undefined

كان أول تجمع بشري أجده في المكان، ويناسب صورته المتخيلة سلفا، يحيط برجل ملتحٍ آسيوي الملامح، يقف فوق سور معدني مستندا إلى عمود نور، يرتل آية من القرآن الكريم باللغة العربية، ثم يشرحها بالإنجليزية لجمهور أغلبه من البيض، بينهم مسلمون آسيويون يهزون رؤوسهم تشجيعا له، وهو يشرح بالإنجليزية قوله تعالى: "مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَٰهٍ"، لألاحظ أنه يركز في حديثه على شاب كان يحيط بذراعه صاحبته التي أسندت رأسها على كتفه، ربما لأنه ظنهما زبونين محتملين، بسبب الاهتمام البادي على ملامحهما، ليفاجأ بعد قليل بالشابة وقد أبعدت رأسها عن كتف صاحبها، وقالت له مقاطعة بضيق: "هل يمكن أن تتوقف عن تكرار نفسك، منذ دقائق لم تقل شيئا جديدا، قلت إنك ستتحدث بشكل عقلاني ومنطقي، لكنك ظللت تردد نصوصا من كتابك المقدس لترد على كتاب مقدس آخر، وبصراحة لا أفهم فائدة ما تقوله".

 

فاجأني ارتباك الملتحي مما قالته، فقد ظننته بحكم مهارته الخطابية معتادا على التعامل مع المقاطعة، ليرفع بعد صمت قصير صوته قائلا بأداء صاخب: "فائدته أنه يمكن أن ينجيكِ وينجيه وينجيكم جميعا من الهلاك في الحياة الآخرة، فائدته أنه لا يريد لي ولكِ ولنا جميعا أن نموت كالحيوانات ونصير ترابا"، وهنا نهض فجأة رجل عجوز سمين خدوده مُشرَبة الحمرة، تاركا الكرسي الذي كان يجلس عليه بجوار السور، وخطا نحو مساحة فارغة أمام الخطيب، ثم بدأ في أداء رقصة مع شريك متوهم، مثيرا ضحك البعض وضيق البعض الآخر، وعلى عكس ما توقعت ضحك المتحدث الملتحي، ووجّه الكلام إلى الراقص العجوز بمودة: "عزيزي جون، لا يليق بك هذا، اجلس واستمع بهدوء، أنت لك آذان كبيرة، لماذا لا تستغلها في السمع، انظروا إلى أذنيه، هل رأيتم أذنا أكبر من هذه من قبل، أليس الهدف من خلقها أن تساعد على الاستماع إلى الآخرين"، فاقترب منه العجوز وقال ضاحكا: "سبق وأن حذرتك، حين تصرخ سأقوم للرقص، تحدث بهدوء وسأستمع إليك"، ليمد الملتحي يده إليه ويسلم عليه، وهو يعده بخفض صوته.

 undefined

حين عاد الملتحي لمواصلة حديثه، بحث بعينيه عن الثنائي ليواصل حديثه مع الشابة، عن فائدة كلامه التي لم تدركها، فقاطعه صديقها هذه المرة قائلا: "يا عزيزي أنت لم تفهم ما قالته لك جيدا، أنا أيضا أؤمن مثلك بالحياة بعد الموت، وأحاول أن أفعل ما يطلبه مني الله لكي لا أذهب إلى الجحيم، فلماذا تعتبر أن حياتي خالية من المعنى بعكس حياتك"، ولا أظن أن الطرفين توقعا أن يقاطعهما رجل أشيب قائلا بسخرية: "الحقيقة أن حياتكما خالية من المعنى، لو كنتما ستعيشانها من أجل حياة بعد الموت ليس عليها دليل علمي"، ليقول له الملتحي بلهفة وكأنه وجد فيه ضالته: "عن أي دليل علمي تتحدث؟ هل تريد أن يصحو أحد من القبر ليخبرك بأن هناك حياة بعد الموت"، فرد الأشيب ضاحكا: "لو صحا زومبي من القبر سأكون مهتما بالجري لا بسؤاله".

 

تجاهل الملتحي سخريته وانتقل نحو سؤال جديد: "هل يمكن أن أسألك من قام بولادتك؟"، رد الأشيب مبتسما: "أمي ولذلك لا أسامحها أبدا"، لم يشارك الملتحي البعض في ضحكهم وواصل أسئلته بحماس: "هل أنت متأكد أن أمك التي ولدتك وأنها ليست امرأة أخرى؟ هل تتذكر وأنت رضيع ما الذي كان يحدث في المستشفى؟ لماذا تصدقها إذن مع أنه لا يوجد دليل أنها والدتك؟"، فرد الأشيب بضحكة أعرض: "لأني ولدت قبيحا مثلها، ولو شككت فيها لقمت بعمل اختبار دي إن إي"، وحين رأى الملتحي أن مساحة الضحك تزيد بين الحاضرين، رفع صوته باللغة العربية مرتلا: "وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ …" إلى آخر الآية الكريمة، قبل أن يبدأ في شرحها بالإنجليزية، ليقاطعه الشاب قائلا: "يا عزيزي أنت تحاول إثبات شيء غير ممكن الإثبات لأمثاله، هو يفكر خارج المنطق الذي نفكر فيه أنا وأنت"، قبل أن يوجه حديثه للأشيب: "بصراحة يفترض ألا تكون مهتما بهذا النقاش الذي يخص المتدينين"، فنظر الملتحي إلى الشاب مبتسما وقال: "لنتعاون إذا في إقناعه بترك الإلحاد"، فنهض جون العجوز وقال بحماس: "ولماذا لا نتعاون سويا في الرقص".

 

لم يتعامل الأشيب الضحوك بهدوء مع محاولة إخراجه من الحوار، فصرخ غاضبا: "ومن قال أن من حق أحد هنا أن يضع حدودا للنقاش، هل وقوفك فوق السور وصياحك يعطيك الحق في أن تتحدث، سأصرخ أنا أيضا من مكاني كما أحب، هذه أرض حرة ومن حقي أن أقول ما شئت"، ولو شاهدت انفعال الرجل وهو يصرخ، لما صدقت أنه كان يضحك ويتحدث بهدوء منذ قليل، وصراخه جعل كثيرين من حوله يصرخون فيه طالبين منه الابتعاد، واحترام هذه المساحة التي خصصت للحوار بين الأديان، ليقول لهم إن كلمة الدين والاحترام لا يصح أن يتجاورا في عبارة واحدة، وإنه سيقول ما يحلو له، وعليهم أن يحترموا عقولهم ويفكروا في الهراء الذي يسمعونه، ليفقدني الصراخ المتعالي من كل اتجاه حماسي للمتابعة، خاصة أن جون العجوز توقف عن الرقص واستقر على كرسيه سادا أذنيه.

 

ابتعدت متجها نحو عمق المكان، لأجد بعد عدة خطوات مشهدا مغايرا، بطله رجل يرتدي قميصا مقلما وطاقية سوداء زينت بالنجمة الحمراء، ويقف فوق سلم معدني علقت عليه لافتة كُتب عليها عنوان موقعه الماركسي شارحا لحوالي خمسة أشخاص من أعمار مختلفة، تفاصيل اللعبة الاقتصادية الرأسمالية التي يتبادل المحافظون والعمال لعبها، ليوهموا الجمهور الإنجليزي بأنهم مختلفون عن بعضهم، وأن على الناس أن يرفضوا هذا الهراء وينتفضوا لإيقاف هذه اللعبة وفرض قواعد جديدة، لم يظهر أن المستمعين يشاركونه حماسه، لكنهم بدوا مهتمين بإكمال الاستماع إليه، لأنه كان يزود كلامه بأرقام يؤكد بها عدم الاختلاف في السياسات بين المحافظين والعمال، لكنني وجدت صعوبة في متابعته، بسبب لهجته وسرعته الشديدة في الكلام، فابتعدت بعد أن أخذت فكرة عامة عما يقوله.

 undefined

على بعد خطوات كان المشهد مختلفا، حيث تعالت أصوات لا تدري إن كانت هتافات أم صرخات، لتتبين حين تقترب أكثر أن مصدرها أشخاص ذوو ملامح شرق أوسطية، يقفون إلى جوار رجل أسود البشرة، يرتدي جاكيت ترينج أحمر وبرنيطة حمراء، ويمسك بكتاب لم أتبين عنوانه، دون أن يقرأ منه، فقد كان يرتجل هجوما عنيفا على الإسلام والمسلمين، ولم يكن فيما قاله جديد عما تردده بعض المواقع والقنوات المسيحية، لكن الصاخبين الواقفين إلى جواره، كانوا حريصين على أن تعلو أصواتهم فوق صوته، ليجاهد بدوره لرفع صوته أكثر، اتضح أن أحدهم من المغرب العربي، عرفته من لهجته المميزة، حين قررت محادثته بعد تردد، خاصة وقد بدا أن حماسه مبالغ فيه، قلت له بتودد أن ما يفعله هو ومن معه، يعطي لكلام الرجل أهمية لا يستحقها، وأن من الأفضل أن يتركه ينتهي من شرح فكرته، ثم يرد عليه بهدوء، خصوصا أنه كان يتحدث عن الإسلام كدين يحتكر القتل والحرب والعنف، وهو كلام يمكن الرد عليه بسهولة.

 

لاحظت عدم حماس أخينا لما قلته، وحين خشيت أن يكون كلامي غير مفهوم له، خصوصا أنه كان يهاجم المتحدث ويقاطعه بإنجليزية طلقة، فشرعت في ترجمة كلامي، ليفاجئني بقوله بعربية فصيحة: "أرد على من يا أخي الكريم، ليحمد الله أنني تركته يتحدث أصلا"، ثم عاد ليهتف في الرجل بالإنجليزية وبحماس أشد: "كذاب كذاب"، فيردد أصدقاؤه الهتاف من بعده، ويرفع المتحدث الأفريقي صوته متوجها بحديثه لمن بدا عليهم الضيق من الحاضرين: "انظروا هؤلاء هم المسلمون، لا يملكون شيئا غير الصياح، ولو تمكنوا مني لقتلوني". على أية حال، لم يكن الصائحون يوجهون إليه شتائم جنسية كالتي سمعتها في زيارة تالية، حين وجدت رجلا مصريا كبير السن، يطوف على كل المتحدثين من المسيحيين أو اليهود أو البوذيين، ليقف بالقرب منهم، وينهال عليهم بأقذع الشتائم "حسبة لله" كما قال لي، وقد نال الرجل حظه من الشهرة، حين وجدت بعض فيديوهاته طريقها إلى الإنترنت واشتهرت عليه لفترة قبل أن يطويها النسيان.   

 

حين علت الأصوات الصارخة في وجه الخطيب الأفريقي، قرر أن يظهر عدم اكتراثه، بأن يشير للصائحين طالبا منهم تعلية أصواتهم أكثر، وحين علت أصواتهم أكثر، أخذ يتقمص دور قائد أوركسترا يحرك يديه لتنظيم الكورال الصارخ، وحين زهق من تحريك يديه الذي لم يوقف الصراخ، نظر فجأة إلى المغاربي الذي كان قد أشعل سيجارة للتو، ليشير إليه صارخا: "ها أنتم ترون بأعينكم، هذا الذي كان يتحدث عن حضارته الإسلامية قبل قليل، هاهو يقوم بالتدخين وسطنا ليفسد الهواء النقي الذي نتنفسه"، ثم يوجه حديثه قائلا للمدخن المغاربي: "ألا تحترم قوانيننا؟ ألا تعرف أن التدخين ممنوع في حدائق مدينتنا"، فيصرخ فيه المغاربي: "مدينة من وقوانين من يا غبي، هل صدقت نفسك أنك أصبحت رجلا أبيض؟ هل تظن أنك حين تتملقهم بالهجوم على الإسلام سيعطونك الجنسية، أنت واهم، سيظلون يعاملونك كأفريقي دخيل مهما صنعت"، ليلمس حديثه عصبا عاريا عند المتحدث الذي أخذ يصرخ فيه: "متخلف بربري"، فيهتف فيه المغاربي: "كذاب عبيط"، مشيرا لمن حوله برفع أصواتهم معه، ويستمر الجميع في تبادل الصراخ، فأبتعد عن المكان باحثا عن "نِمرة" جديدة.

 

في الطريق نحو تجمع صاخب جديد، مررت على شاب لطيف مبتسم يحمل لافتة "أحضان مجانية"، لكنه لم ينجح في إغراء أحد بعرضه الودود، لأن وجهه كان مصابا بطفح جلدي وردي اللون، يوحي أنه في مرحلة الانتشار، مما يمكن أن يقتل أي مشاعر طيبة، قد ترغب في تلبية طلبه.

undefined

وعلى مقربة منه وجدت رجلا لاتينيا يقف على كرسي حمام أخضر، ويصرخ منفعلا، وهو يشير بإصبع الاتهام إلى حيث لا يوجد أحد، دون أن يتبين من كلامه شيء، وحين استعنت بزميل من المارة لفهم ما يقوله، أخبرني أحدهم أنه يمر به منذ فترة، فيجده يشير غاضبا بنفس الإصبع إلى نفس الاتجاه، وحتى حين صرخ في شخص حاول تصويره، لم يقم بتحويل نظره وإصبعه عن ذلك الاتجاه. وعلى بعد خطوات منه وقف رجل أبيض طاعن في السن، أمام منصة خشبية مصممة للطوي والحمل بسهولة، وقد وضع أمامه على الأرض عددا من الكتيبات البوذية، ووقف صامتا غير مكترث بشرح أي شيء عن طبيعة ما يعرضه، وقد وقف خلفه رجل يماثله في السن، وإن كان أكثر "ألاطة" وأناقة، وقد راقبت الإثنين لمدة عشر دقائق من كثب، فوجدتهما متمسكين بالتزام الصمت الرهيب، دون أن يزعجهما عدم توقف أحد أمام المنصة ولو للحظات، ولم أجد على المنصة شيئا مكتوبا لأفهم منه، هل يتبعان جهة ما، أم أنهما يقفان هكذا من باب التطهر والرياضة الروحية، أو الحداد على ما آل إليه حال الكون.

 

حين وصلت إلى التجمع الصاخب الجديد، اتضح أنه ليس جديدا، فقد كان نسخة مقلوبة من التجمع السابق، بطلها مسلم بنغالي، كان يصرخ بحماس في المتحلقين من حوله، ملوحا بمصحف صغير، ومتحدثا عن فضائل الإسلام التي لا يمكن أن تجدها في أي دين آخر، وقد وقف حوله ثلاثة مراهقين إنجليز يتقافزون ويصرخون بكلام من نوعية: "اذهب إلى بلدك يا أسامة، لماذا لا تعود إلى بنجلاديش لتنكح زوجاتك الأربع، هذا بلد مسيحي لا يحتاج إلى إرهابيين قذرين"، كان أغلب المتحلقين حوله مسلمين آسيويين، لم يلتفت منهم أحد إلى المراهقين الصارخين، وكأنهم يمارسون تدريبا على فضيلة الصبر، مما كان يستفز المراهقين أكثر فيمعنون في شتيمته، فقلت لنفسي أن المشهد ربما تغير واكتسب أبعادا درامية أفضل، لو التفت إليه المغاربي الصارخ وزملاؤه، ليشتبك الصارخون ببعضهم، ويتيحوا للمتحدثين فرصة أفضل للخطابة.

 

حين ابتعدت نحو تجمع جديد، لاحظت أنني خلال وقت قصير، أصبحت أهتم بمدى صخب التجمعات وضجيجها، لا بما ينطق به متحدثوها، وأدركت أنني لو أسلمت نفسي أطول لهذه الحالة، لانتهى بي الأمر واقفا على سلم قصير، وصارخا في الفراغ مصوبا إلى الجميع إصبعي الوسطى، ولذلك قررت مغادرة المكان واستثمار وقتي فيما هو أفضل، وفي طريقي لمغادرة ركن الخطباء، اتضح أن "الهايد بارك" قد ادخرت أفضل ما في جعبتها، لتظهره لي في الوقت المناسب. نلتقي في الأسبوع القادم بإذن الله.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.