شعار قسم مدونات

جيلنا.. ومعضلة الشغف!

blogs - youth

ما مشكلة جيلنا مع الشغف؟ وأنا هنا لا أقصد الشغف في السياق المهني أو سياق التنمية البشرية، وإنما الشغف الذي يبقينا أحياءً بحقّ، نتفاعل ونهتم ونحب ونكره.. الشغف الذي هو جوهر الحياة.

(1)
"في مرحلة ما من هشاشة نسميها نضجًا، لا نكون متفائلين ولا متشائمين، أقلعنا عن الشغف والحنين" محمود درويش

الشغف هو حياة القلب، بلا شغف يتحول صدرك إلى قبر موحش لقلب لا ينبض، وبلادنا ستساومك على كل شعاع حياة باقٍ في قلبك.

الخوف من الشغف
نحن جيل الثورة الذي كاد يلامس السماء بآماله الوردية، ولذا عندما انهزم كان السقوط مروعًا. لسنا نحن منذ خمس سنوات.. أدركنا ذلك أو أنكرناه؛ فقد أضاف الانكسار أعمارًا لأعمارنا، تغيرت فينا أشياء. وانكسرت فينا أشياء أكثر!

لا شيء أقسى على النفس من شغف مفتقد وحلم ضائع وأمل بعيد المنال. ربما الفشل أول طريق النجاح، ولكن هل يجب أن نفشل كل تلك المرات؟ هل كُتب علينا أن ننهزم دومًا بتلك القسوة؟ كان طموحنا هائلًا كجبل جليد، ولكن سطعت عليه شمس الواقع، فانصهر حتي غمرنا بالمياه أو كاد، وها نحن قد دفعنا الثمن من حياتنا وحياة أصدقائنا، فمنا من قضى نحبه ومنا من ينتظر.

لذا لم نعد نحتمل التجارب، زادت خبرتنا وزادت معها مخاوفنا، وعندها مات الشغف. وللمفارقة أصبح جيل الثورة يهرب، وصرنا نخفي تلك الرغبة في الهروب بادعاء الحكمة، ونُصوِّر إحباطنا الجمعي على أنه نضج ووعي. لكن الحقيقة أننا ببساطة صرنا جبناء، نخشى الفشل مسبّقًا، وكم صار الفشل عسيرًا على أرواحنا المنهكة! فاستعنا بالعجز والكسل، استعنا بقتل كل ذرة شغف قد بقيت في دواخلنا.

الشغف هو حياة القلب، بلا شغف يتحول صدرك إلى قبر موحش لقلب لا ينبض، وبلادنا ستساومك على كل شعاع حياة باقٍ في قلبك، ربما تتمسك فترة بأحلامك وشغفك، ولكن في الواقع – عكس عالم الخيال – غالبًا ما ينتصر القبح. ستستسلم! ستشعر أنك غريب، وستقنع نفسك أن الشغف هو رفاهية غير منطقية لمن يحيا في تلك العتمة الطاغية، فما نفع الأزهار وسط بركة من الوحل؟! 

(2)
"الحدود القصوى ترسم الفاصل الذي تختفي من بعده الحياة، ثم وإن الشغف بالتطرف هو رغبة مقنعة في الموت" ميلان كونديرا

الأفراد المنهكون عاطفيًا وعقليًا والمجتمعات المستنزفة نفسيًا وأخلاقيًا لا ينبغي أن تدخل المعارك الصفرية؛ لأنها ببساطة حين تفعل لا تربح.

إدمان الشغف
ولأننا جيل تشكل وعيه على الثورة "المعركة الصفرية الكبرى"، فقد صار ذلك إدماننا، أقصد أن ذاك الجزء من جيلنا الذي قُدِّر له النجاة من براثن الإحباط الجمعي والشيخوخة النفسية وقع فريسة رغبة طفولية في التمرد. تمرد يغذي إحساسًا بالغربة والتميز عن المجتمع.

صرنا نحب الأفعال البطولية والمعارك الكبرى طمعًا في دفقات الأدرينالين، ونحاول استدعاء الملاحم التي سنخرج منها أبطالًا محمولين على الأعناق، ثم نستفيق بعد انتهاء نشوة البطولة ونصطدم بالواقع، مدركين أننا لم نتبين مواضع أقدامنا، قد نبدو لأنفسنا في صورة فرسان من التاريخ القديم، ولكننا لسنا سوى عجائز .. لم نجد ما نتوكأ عليه سوى صناعة الوهم!

تقول أروى صالح مناضلة السبعينات في كتابها (المبتسرون.. دفاتر واحدة من جيل الحركة الطلابية) "فأنت حتمًا لن تعود أبدًا نفس الشخص الذي كنته قبل أن تبلوك غواية التمرد، وليس فقط لأنه جميل، فلأن التمرد لحظة حرية استثنائية""لقد مسه سحر الحلم مرة، وستبقى تلاحقه دومًا ذكرى الخطيئة الجميلة، لحظة حرية، خفة لا تكاد تحتمل لفرط جمالها، تبقى مؤرقة كالضمير، وملهمة ككل لحظة مفعمة بالحياة والفاعلية، ومؤلمة، فالواقع أن سكة (اللي يروح ما يرجعش) ليست سكة ثالثة إنما هي كامنة في قلب اللحظة التي تقامر فيها بوجودك لتتبع الحلم".

الأفراد المنهكون عاطفيًا وعقليًا والمجتمعات المستنزفة نفسيًا وأخلاقيًا لا ينبغي أن تدخل المعارك الصفرية؛ لأنها ببساطة حين تفعل لا تربح.

ولكننا -حين تتلبسنا روح التمرد- نرى أننا أفضل من المسارات المجهِدة للنجاح والمعارك الطويلة المليئة بالتنازل والشوائب، وأولى بنا الطرق المختصرة للنجاح والمعارك الصفرية النقية ولو كانت خاسرة على الأرجح، نفكر فقط باحتمالية الانتصار الكامل وننسى احتمالية الهزيمة الساحقة، الهزيمة التي ستقتل تمردنا وتسلمنا ليأس لا يسهل مداواته -مثل ذاك اليأس الذي أودى بأروى صالح إلى الانتحار!- وهنا نعود لسيرتنا الأولى، يسيطر علينا الانكسار من الهزيمة والخوف من الفشل ومن الشغف، دائرة مفرغة لعينة!

( 3 )
"إبقاء الشغف تحت السيطرة أو الاستسلام له تمامًا.. أي هذين المسارين أقل تدميرًا للفرد؟ لا أعرف" باولو كويلو

ربما الحل أن نضع أهدافًا صغيرة ونعمل بكل وسعنا على تحقيقها، مدركين أن الأعمال الصغيرة هي التي تصنع الأمجاد العظيمة .. أن نجرب باب نفع جديد كلما انسد باب في وجوهنا.

ما الحل؟
نعيش مذبذبين بين حالين أحلاهما مر، بين ظلمة مقيِّدة حيث يكسرنا القهر وتروض الهزيمة طموحنا .. وضوء باهر حيث يعمي أعيننا الحنين لمشاعر البطولة ونبحث بنهم عن معارك كبرى وصراعات صفرية، بين الخوف من الشغف أو إدمان الشغف تتسرب أعمارنا من بين أيدينا، وتضيع أوقاتنا هباءً محبوسين في زنازين الماضي مكبلين بعواقبه النفسية.

صدقني لو مددنا خط الزمن على استقامته إلى المستقبل لوجدتنا كما أجيال سبقتنا تهكّمنا عليها صباح مساء، انطفأت شعلة الحياة في قلوبنا وتحولت إلى رماد بعثرته رياح العمر، فصرنا مومياوات تمشي على ظهر الأرض بلا أهداف أو طموحات، أجسادًا منزوعة الشغف والحياة!

ربما الحل أن نضع أهدافًا صغيرة ونعمل بكل وسعنا على تحقيقها، مدركين أن الأعمال الصغيرة هي التي تصنع الأمجاد العظيمة.. أن نجرب باب نفع جديد كلما انسد باب في وجوهنا؛ لأن العمر أغلى من أن نضيعه في النحيب. أن نخدم الناس ونسعد أحبابنا ونتقرب إلى الله؛ فالحياة صحراء مترامية الأطراف تحتاج من يعمر أي جزء شاء منها وربما ليس ذاك كله الحل.

المهم أن نستفيق قبل أن تصدمنا لحظة من الوضوح القاسي والحكمة المتأخرة، لحظة ربما تأتي بعد أيام أو شهور أو سنوات أو حتى على فراش الموت، وعندها سندرك أننا ضيعنا أعمارنا هباءً. لم نحاول أو أخطأنا في كل محاولاتنا. فلم نفعل شيئًا مهمًا بحق في سنوات حياتنا المعدودة!!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.