الاقتصاد الأزرق.. طوق نجاة السودان في الحرب

صورة وصول باخرة المساعدات التركية لميناء بورتسودان اليوم- سونا
أرشيف - وصول باخرة مساعدات تركية لميناء بورتسودان (سي إن إن)
  • الاقتصاد الأزرق في السودان: رهان إستراتيجي لإنعاش الاقتصاد في زمن الحرب

رغم اشتداد الحرب السودانية وتراجع مؤشرات الاقتصاد الكلي، يظل البحر الأحمر وما يرتبط به من موارد بحرية وبنية لوجيستية غير مستغلة، فرصة نادرة يمكن أن تشكل طوق نجاة للاقتصاد الوطني.

إن ما يُعرف بـ"الاقتصاد الأزرق" لا يقتصر على صيد الأسماك أو السياحة البحرية، بل يشمل منظومة متكاملة من الأنشطة الاقتصادية القائمة على استدامة الموارد البحرية والساحلية: من الموانئ والنقل البحري، إلى الطاقة المتجددة، والاستزراع السمكي، والتجارة البحرية، وحتى السياحة البيئية.

في ظل ظروف الحرب، حيث انكمشت معظم القطاعات الإنتاجية وتدهورت سلاسل الإمداد، يبرز الاقتصاد الأزرق كمساحة بديلة وواعدة، يمكن أن تدعم الصمود الاقتصادي، وتفتح آفاقا جديدة للإيرادات، بالاعتماد على ما هو متاح من موارد طبيعية وموقع إستراتيجي فريد.

لم يستثمر السودان تاريخيا بشكل كافٍ في تطوير موانئه على البحر الأحمر أو تحويلها إلى منصات لوجيستية عالمية؛ إذ ظل الميناء الرئيسي في بورتسودان يعاني من ضعف البنية التحتية وقلة التحديث

الموقع الجيوستراتيجي للسودان على البحر الأحمر

يمتد الساحل السوداني لأكثر من 750 كيلومترا على البحر الأحمر، وهو من أطول السواحل في المنطقة، ويقع عند نقطة التقاء حيوية بين قناة السويس شمالا ومضيق باب المندب جنوبا. هذا الموقع يمنح السودان فرصا استثنائية للتحكم في خطوط التجارة البحرية الدولية التي تمر عبر البحر الأحمر، والتي تمثل ما يقارب 12% من التجارة العالمية.

لكن، ورغم هذه الميزة، لم يستثمر السودان تاريخيا بشكل كافٍ في تطوير موانئه أو تحويلها إلى منصات لوجيستية عالمية؛ إذ ظل الميناء الرئيسي في بورتسودان يعاني من ضعف البنية التحتية وقلة التحديث، مقارنة بموانئ الدول المجاورة، مثل جيبوتي أو السعودية، ما أدى إلى خسارة السودان فرصا تجارية واستثمارية هائلة.

الاقتصاد الأزرق كأداة لتعويض خسائر الحرب

يمكن أن يشكل الاقتصاد الأزرق أداة لتعويض خسائر الحرب من خلال:

  • قطاع الصيد البحري والاستزراع السمكي: يمتلك السودان ثروة سمكية كبيرة في البحر الأحمر تُقدَّر بآلاف الأطنان سنويا، لكنها غير مستغلة إلا جزئيا. وفي زمن الحرب، حيث تراجعت صادرات اللحوم والماشية؛ بسبب تعقيدات النقل البري والحصار، يمكن أن يمثل الاستزراع السمكي خيارا عمليا لتوفير بروتين غذائي محلي، وتصدير منتجات ذات قيمة مضافة إلى الأسواق الإقليمية، وخاصة الخليجية.
  • النقل البحري والتجارة: عطلت الحرب طرق التجارة البرية نحو مصر، وتشاد، وإثيوبيا، مما جعل البحر الأحمر الخيار شبه الوحيد للحركة التجارية. إن الاستثمار في خطوط شحن بحرية محلية وإقليمية يمكن أن يحافظ على تدفق السلع، ويقلل اعتماد السودان على دول أخرى في عمليات العبور.
  • الطاقة البحرية والمتجددة: في ظل نقص الكهرباء بسبب الحرب وتضرر الشبكات، يمتلك البحر الأحمر إمكانيات ضخمة في مجالات طاقة الرياح والأمواج والطاقة الشمسية الساحلية. ويمكن لمشروعات صغيرة ومتوسطة في مجال الطاقة البحرية أن تدعم الاستقرار المجتمعي، وتوفر مصادر بديلة للطاقة.
  • السياحة البحرية والبيئية: رغم الحرب، ما زال البحر الأحمر السوداني يحتفظ بشعاب مرجانية تُعد من الأجمل عالميا. ورغم التراجع الكبير في السياحة، فإن التخطيط لمستقبل ما بعد الحرب يمكن أن يجعل من الساحل السوداني مركزا للسياحة البيئية والغوص، على غرار مصر (الغردقة، وشرم الشيخ).

في سياق الحرب، لا يبقى الاقتصاد الأزرق مجرد قطاع تنموي، بل يصبح إستراتيجية بقاء؛ فهو القطاع الأقل تأثرا بالحرب البرية، والأكثر قدرة على جذب العملة الصعبة متى ما توفرت له بنية أساسية وشراكات مدروسة

التحديات التي تعيق تفعيل الاقتصاد الأزرق

  • الوضع الأمني والسياسي: استمرار الحرب يجعل الاستثمار الخارجي شبه مستحيل، ويضعف القدرة على استغلال الموارد.
  • البنية التحتية المتهالكة: الموانئ السودانية بحاجة إلى تحديث شامل، من الأرصفة والمخازن إلى أنظمة الإدارة الرقمية.
  • ضعف التشريعات البحرية: غياب قوانين حديثة لإدارة الموارد البحرية بشكل مستدام، يقلل ثقة المستثمرين ويعزز الهدر والفساد.
  • التنافس الإقليمي: دول مثل جيبوتي، والسعودية، ومصر تستثمر بقوة في البحر الأحمر، مما يضع السودان في موقع متأخر إذا لم يتحرك بسرعة.

فرص ما بعد الحرب

إذا ما تم تثبيت السلام، يمكن أن يتحول الاقتصاد الأزرق إلى قاطرة أساسية لإعادة الإعمار، وذلك عبر:

إعلان
  • الشراكات الدولية: الاستفادة من مبادرات الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي، التي تدعم الاقتصاد الأزرق كأداة للتنمية المستدامة.
  • المناطق الاقتصادية الخاصة: إنشاء مناطق حرة على الساحل السوداني تشجع الاستثمار في النقل البحري، والصناعات التحويلية، والطاقة.
  • برامج التدريب وبناء القدرات: تطوير معاهد متخصصة في الاقتصاد الأزرق، لتأهيل الشباب على إدارة الموارد البحرية والتقنيات الحديثة.
  • الاندماج في مبادرات البحر الأحمر: مثل مجلس الدول العربية والأفريقية المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن؛ لتعزيز التعاون الإقليمي وتبادل المنافع.
  • التحليل: الاقتصاد الأزرق كرافعة صمود واستقرار.

في سياق الحرب، لا يبقى الاقتصاد الأزرق مجرد قطاع تنموي، بل يصبح إستراتيجية بقاء؛ فهو القطاع الأقل تأثرا بالحرب البرية، والأكثر قدرة على جذب العملة الصعبة متى ما توفرت له بنية أساسية وشراكات مدروسة.

اقتصاد البحر يمكن أن يعمل كـ"صمام أمان" يعوّض تراجع الزراعة التقليدية والنفط، ويوفر موارد لدعم استقرار سعر الصرف وتمويل إعادة الإعمار. وعلى المدى البعيد، يمكن للسودان أن يتحول من مجرد دولة ذات ساحل طويل، إلى لاعب محوري في التجارة العالمية على البحر الأحمر.

وبقدر ما ينجح السودان في الاستثمار في اقتصاده الأزرق، بقدر ما يقترب من تجاوز محنته الحالية نحو اقتصاد أكثر تنوعا واستدامة

الاقتصاد الأزرق ليس ترفا نظريا للسودان في ظل الحرب، بل ضرورة إستراتيجية. فإذا ما أُحسن استغلال الموقع الجغرافي والثروات البحرية، يمكن للسودان أن يخلق روافع اقتصادية جديدة، تعزز الصمود الآن، وتدعم التعافي في المستقبل.

إن تحويل البحر الأحمر من ساحة تنافس جيوسياسي إلى منصة للتنمية والازدهار هو التحدي الأكبر والفرصة الأهم. وبقدر ما ينجح السودان في الاستثمار في اقتصاده الأزرق، بقدر ما يقترب من تجاوز محنته الحالية نحو اقتصاد أكثر تنوعا واستدامة.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان