في الوقت الذي يترنح فيه جنوب السودان تحت وطأة الفقر والفساد والقمع، وتئن شوارعه من غياب الأمن والخدمات، تنشغل حكومة جوبا بصفقات مريبة خلف الكواليس، تُدار لا بروح المسؤولية بل بعقلية المقامرة الرخيصة.
آخر فصول هذه المسرحية السوداء ما تسرب عن مباحثات مع وفد إسرائيلي رفيع المستوى، تطرقت- وفق ما يُتداول- إلى فكرة استضافة أو توطين بعض سكان غزة في جنوب السودان. وقد سارعت الحكومة إلى نفيه خوفا من الغضب الشعبي، لكنها لم تفلح في إخفاء دخان النار التي أشعلتها.
الخطورة الحقيقية لا تكمن فقط في احتمالية تمرير مثل هذه الصفقات، بل في طبيعة النظام نفسه: سلطة مأزومة، محاصرة بالفساد والانقسامات، مستعدة لأن تساوم على أي شيء
المفارقة أن حكومة جوبا تعرف جيدا أن مجرد التلميح بهذا الأمر كفيل بإشعال الشارع؛ ليس فقط لأن شعب جنوب السودان لم يُشفَ بعد من ندوب صراعاته الطويلة ذات الطابع العقائدي والإثني مع الشمال، بل لأن إدخال هذا الملف الحساس إلى بيئة هشة سياسيا واجتماعيا واقتصاديا يمثل مقامرة بأمن الدولة وكيانها وهويتها.
إن المجتمع الجنوبي، الذي لا يزال يتلمس طريقه نحو بناء هوية أفريقية خالصة، يرفض أي خطوة قد تفتح الباب أمام ما يراه تهديدا لثقافته ووجوده.
والأنكى أن هذه التسريبات ليست مجرد "أوهام مؤامرة"، بل ترتبط بحسابات صغيرة مرتبطة ببقاء النظام نفسه؛ فالمصادر تشير إلى أن حكومة جوبا هي التي عرضت على واشنطن هذه الفكرة، بعدما لمح دونالد ترامب في وقت سابق إلى "خيار بديل" لغزة.
لم يكن الهدف سوى محاولة يائسة لفك قبضة العقوبات المفروضة على استيراد السلاح، وعلى شخصيات نافذة في النظام، في مقدمتهم نائب الرئيس وصهره، وكأن الوطن برمّته أصبح ورقة مقايضة على طاولة البيت الأبيض، يُساوَم بها كما تُساوَم بضائع السوق السوداء.
وليست هذه المرة الأولى التي يضع فيها النظام كرامة الدولة في المزاد العلني؛ فقد سبق أن وافق على استقبال "المجرمين المرحَّلين" من الولايات المتحدة، فقط لينال رضا واشنطن، دون اعتبار لما قد يعنيه ذلك من أخطار اجتماعية وأمنية على بلد بالكاد يقف على قدميه.
إنها عقلية حكم ترى في كل أزمة فرصة لإطالة عمرها، ولو كان الثمن بيع سيادة البلاد وتفكيك نسيجها الاجتماعي.
الخطورة الحقيقية لا تكمن فقط في احتمالية تمرير مثل هذه الصفقات، بل في طبيعة النظام نفسه: سلطة مأزومة، محاصرة بالفساد والانقسامات، مستعدة لأن تساوم على أي شيء -حتى على هوية شعبها ومستقبله- مقابل رفع عقوبات أو كسب دعم عابر من قوة دولية.
هنا تكمن المأساة: نظام يهرب من أزماته الداخلية عبر الارتماء في أحضان صفقات خارجية خطيرة، فيما يزداد الشعب فقرا وجوعا ويغرق الوطن في مزيد من العزلة.
الحقيقة المؤلمة أن جوبا لا تتصرف كدولة مسؤولة، بل كسلطة مأزومة تفكر بعقلية النجاة اللحظية بدل التفكير بمستقبل شعبها
إن الخوف الشعبي ليس ترفا ولا مبالغة؛ فالناس يخشون أن تتحول بلادهم إلى ساحة للتجارب الدولية، أو إلى "مكب" للمشاريع المشبوهة التي تفتش عن أرض ضعيفة لتزرع فيها بذورها.
هناك حساسية تاريخية وثقافية تجاه أي محاولة لفرض هوية مغايرة، خصوصا حين ترتبط بالإسلام أو الثقافة العربية، التي طالما ارتبطت في الذاكرة الجمعية بالصراع مع الشمال. هذه ليست مجرد مخاوف، بل حقيقة راسخة في وعي غالبية المواطنين والمعارضة على السواء.
الحقيقة المؤلمة أن جوبا لا تتصرف كدولة مسؤولة، بل كسلطة مأزومة تفكر بعقلية النجاة اللحظية بدل التفكير بمستقبل شعبها. فبدل أن تنشغل ببناء اقتصاد يليق بثروات النفط، أو بإطلاق حوار وطني حقيقي يطفئ نيران الانقسام، نراها تلهث وراء صفقات مريبة على حساب سيادة الوطن وكرامة مواطنيه.
قد تستطيع الحكومة نفي التسريبات اليوم، لكنها لن تستطيع إخفاء الحقيقة إلى الأبد: أن هذا النظام فقد بوصلته الوطنية، وأنه مستعد لأن يبيع كل شيء -الأرض والهوية والسيادة- في سبيل أن يبقى على الكرسي يوما إضافيا.
أما الشعب، فيعرف أن ثمن هذه الصفقات سيُدفع من دمه ولقمته وهويته، ولن يغفر بسهولة لحكومة وضعت الوطن في ميزان المقايضة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

