النموذج التركي في الصومال ودروس للمنطقة

صومليات يحملن علم الصومال وتركيا يرحبن بفتح مركز لمنظمة إغاثية تركية في مقديشو شهر أغسطس من العام 2011 .
صوماليات يحملن علم الصومال وتركيا يرحبن بفتح مركز لمنظمة إغاثية تركية في مقديشو عام 2011 (الجزيرة)

في منطقة عانت لعقود من الاستعمار المباشر، ثم من التدخلات الأجنبية المتسترة وراء شعارات التنمية أو مكافحة الإرهاب، يظهر النموذج التركي في الصومال كاستثناء لافت.

ليس لأنه خالٍ من المصالح الإستراتيجية، بل لأنه قائم على مقاربة مختلفة تقوم على "الشراكة" لا "الهيمنة"، وعلى "الاستثمار في الاستقرار" لا "التلاعب بالفوضى".

تجربة أنقرة في مقديشو توحي بإمكانية صياغة علاقة جديدة بين الدول الكبرى والدول الخارجة من الحرب، علاقة يمكن أن نطلق عليها: إستراتيجية "رابح-رابح".

على عكس المقاربة الغربية التي لطالما اعتمدت على دعم مليشيات محلية أو تنصيب ضباط عسكريين موالين، اختارت تركيا تدريب الجيش الصومالي على أسس مهنية داخل قاعدة "توركسوم" في مقديشو

من المساعدات إلى الشراكة: بدايات مختلفة

عندما زار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الصومال 2011، كان البلد يعيش مجاعة خانقة ونزاعات مسلحة أنهكته. وقد شكلت صور القوافل الإنسانية التركية التي وصلت إلى مقديشو في وقت تجاهل فيه الغرب الصومال، نقطة انطلاق لبناء ثقة عميقة بين الشعب الصومالي وتركيا.

ولم يتوقف الأمر عند المعونات الغذائية أو المساعدات الطبية، بل تحول إلى خطة طويلة المدى لدعم الدولة، عبر بناء المستشفيات والمطارات والموانئ، وتدريب الكوادر المدنية والعسكرية، وتقديم منح دراسية للطلاب.

هذا التحول من مجرد "فاعل إنساني" إلى "شريك إستراتيجي" هو ما جعل النموذج التركي مختلفا. فأنقرة لم تتعامل مع الصومال كحديقة خلفية أو كمنجم موارد، بل كدولة شقيقة يمكن أن تنهض إذا أُعطيت فرصة للنمو المستدام.

البنى التحتية: جسور تربط الاقتصاد بالمستقبل

أدركت تركيا أن استقرار الصومال لن يتحقق من خلال الأمن فقط، بل يحتاج إلى اقتصاد حقيقي. لذلك استثمرت في البنى التحتية:

  • إعادة تأهيل مطار مقديشو الدولي وتطويره.
  • بناء وتسيير ميناء مقديشو عبر شركات تركية، ما أعاد للصومال موقعه كبوابة تجارية مهمة على المحيط الهندي.
  • إنشاء مستشفى "رجب طيب أردوغان" الجامعي، الذي أصبح من أكبر المؤسسات الصحية في شرق أفريقيا.
إعلان

هذه المشاريع لم تكن مجرد واجهة سياسية، بل ساهمت فعليا في تحسين حياة المواطنين، وفتحت الباب أمام رجال الأعمال للنظر إلى الصومال كوجهة واعدة للاستثمار.

أسست مؤسسات تركية مدارس ومراكز تعليمية في الصومال، ما يعزز انتشار اللغة التركية ويقوي الروابط الثقافية بين الشعبين

بناء جيش وطني: الأمن بوصفه ركيزة للسيادة

على عكس المقاربة الغربية التي لطالما اعتمدت على دعم مليشيات محلية أو تنصيب ضباط عسكريين موالين، اختارت تركيا تدريب الجيش الصومالي على أسس مهنية داخل قاعدة "توركسوم" في مقديشو.

وهذه القاعدة الكبرى لتركيا خارج حدودها، أصبحت مدرسة لتخريج جنود وضباط يشكلون نواة لجيش وطني قادر على مواجهة حركة الشباب وحماية مؤسسات الدولة.

كما شمل التعاون المجالين البحري والجوي، من خلال دعم الصومال بمعدات عسكرية وتدريب قوات بحرية لمكافحة القرصنة وحماية المياه الإقليمية. بهذا المعنى، لم يكن الأمن هدفا بحد ذاته، بل وسيلة لبناء سيادة حقيقية.

التعليم والتبادل الثقافي: الاستثمار في الإنسان

أحد أعمدة النموذج التركي في الصومال هو التعليم. آلاف الطلاب الصوماليين حصلوا على منح دراسية لمتابعة تعليمهم في الجامعات التركية. هذا الاستثمار في العنصر البشري سيؤتي ثماره مستقبلا حين يعود هؤلاء الطلبة ليقودوا قطاعات حيوية في بلادهم.

إضافة إلى ذلك، أسست مؤسسات تركية مدارس ومراكز تعليمية في الصومال، ما يعزز انتشار اللغة التركية ويقوي الروابط الثقافية بين الشعبين.

وهنا تتجلى القوة الناعمة لتركيا، التي تدرك أن النفوذ الحقيقي لا يُبنى فقط بالقواعد العسكرية، بل بالعقول والأجيال القادمة.

النموذج الغربي التقليدي قائم على "المصالح أولا"، بينما النموذج التركي يحاول تقديم "شراكة متبادلة" تجعل الطرفين رابحين

الاقتصاد والرؤية المستقبلية

بلغ معدل النمو الاقتصادي في الصومال أكثر من 4% في السنوات الأخيرة، وهو معدل يُعتبر واعدا لدولة كانت تُصنف قبل عقد من الزمن ضمن "الدول الفاشلة". وقد بدأ رجال الأعمال ينظرون إلى الصومال كبلد جاذب للاستثمارات، بفضل تحسن البيئة الأمنية والإدارية.

تركيا، من جهتها، لا تكتفي بمشاريع البنية التحتية، بل تتجه نحو الاستثمار في الطاقة والموارد البحرية، بما يفتح آفاقا اقتصادية جديدة للصومال، شرط أن يتم ذلك في إطار من الشفافية والتقاسم العادل للعوائد.

مقارنة مع النموذج الغربي

ما يميز المقاربة التركية أنها لا تسعى إلى فرض نظام سياسي أو تنصيب عسكريين في السلطة كما فعلت القوى الاستعمارية سابقا، بل تحرص على احترام العملية الديمقراطية، وتتعامل مع الحكومة والمعارضة على حد سواء. وهذا ما يجعلها مقبولة شعبيا، بخلاف القوى الغربية التي ارتبط وجودها في الذاكرة الأفريقية بالنهب والاستغلال والهيمنة.

النموذج الغربي التقليدي قائم على "المصالح أولا"، بينما النموذج التركي يحاول تقديم "شراكة متبادلة" تجعل الطرفين رابحين. صحيح أن تركيا تستفيد من الأسواق الأفريقية وموقع الصومال الجيوسياسي، لكنها في المقابل تمنح الصومال فرصا حقيقية للنهوض.

النموذج التركي في الصومال يطرح سؤالا إستراتيجيا: هل يمكن أن نؤسس لعلاقات دولية تقوم على "رابح-رابح" بدل "رابح-خاسر"؟

هل يمكن تعميم التجربة على سوريا وليبيا والسودان؟

السؤال الذي يطرح نفسه: هل يمكن أن يتكرر النموذج التركي في دول أخرى خرجت من الحرب مثل سوريا، وليبيا، والسودان؟

  • في ليبيا، تمتلك تركيا حضورا سياسيا وعسكريا، لكن تعميم تجربة الصومال يتطلب انتقالا من الدعم العسكري إلى الاستثمار في البنية التحتية والتعليم والاقتصاد.
  • في سوريا، تغير المشهد كليا بعد هروب بشار الأسد وانتصار الثورة وتقلد الرئيس أحمد الشرع رئاسة البلاد. الرئيس الجديد يبذل جهودا حثيثة لإخراج سوريا من أزمتها الاقتصادية، وقد اتجه إلى تركيا لبناء شراكات إستراتيجية في مجالات الطاقة والبنية التحتية والتعليم، وهو ما يجعل التجربة السورية أقرب في ملامحها إلى المثال الصومالي.
  • أما في السودان، فإن الظروف السياسية المتقلبة تجعل من الصعب تكرار التجربة حاليا، غير أن إمكانات التعاون في مجالات الزراعة والطاقة تبقى كبيرة إذا استقر الوضع.
إعلان

ما يجمع هذه الحالات أن نجاح النموذج التركي يتطلب وجود دولة مركزية قادرة على التفاوض، وإرادة سياسية داخلية تضع التنمية فوق الانقسامات.

إنها معادلة تستحق التأمل: حين تربح الدولة المستضيفة، يربح الشريك الدولي كذلك. وحين يكون الطرفان رابحين، تستقر المنطقة بأسرها

نحو شراكات جديدة في المنطقة

النموذج التركي في الصومال يطرح سؤالا إستراتيجيا: هل يمكن أن نؤسس لعلاقات دولية تقوم على "رابح-رابح" بدل "رابح-خاسر"؟ تركيا تحاول أن تقدم جوابا عمليا: نعم، إذا وُجد احترام متبادل للسيادة، واستثمار في الإنسان والبنية التحتية، وشراكة اقتصادية شفافة.

قد لا يكون النموذج مثاليا، ولا يخلو من مصالح إستراتيجية، لكنه يقدم بديلا واقعيا ومغايرا للنموذج الغربي الذي أرهق أفريقيا لعقود. وإذا استطاعت أنقرة أن تنجح في الصومال، فلماذا لا تنجح في سوريا، أو ليبيا، أو السودان؟

إنها معادلة تستحق التأمل: حين تربح الدولة المستضيفة، يربح الشريك الدولي كذلك. وحين يكون الطرفان رابحين، تستقر المنطقة بأسرها.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان