الهوية السورية بين إرث الأمويين وتحديات الحاضر

حي الشاغور في دمشق
الكاتب: الهوية الأموية ليست نقيض الهوية السورية، بل هي جزء منها؛ طبقة عميقة من الذاكرة يمكن أن تغني الحاضر إذا أُحسن استحضارها (مواقع التواصل)

في ذاكرة الشرق، هناك مدن تشبه المرايا الكبرى؛ كل من ينظر فيها يرى شيئا من ذاته، ويرى في الوقت نفسه تاريخا يتجاوزه. ودمشق واحدة من تلك المدن التي لم تكن يوما مدينة عادية، بل عاصمة للزمان، ومختبرا للهويات.

هنا، تتقاطع السيوف مع الأقلام، والقداسة مع السياسة، والشرق مع الغرب. وهنا، وُلد سؤال الهوية الذي لم يُغلق بعد: أهي سوريا اليوم امتداد لهويتها الأموية العظمى، أم أنها تشيّد ملامح هوية سورية جديدة مختلفة؟

الهوية السورية اليوم لا تُعرّف فقط بالانتماء الديني أو الإمبراطوري، بل تحاول أن تمسك بخيوط كثيرة: الوطنية السورية الجامعة، والعروبة، والتعدد الطائفي والإثني، والانفتاح على العالم

ألق دمشق الأموية

حين انتقل معاوية بن أبي سفيان إلى دمشق ليجعلها عاصمة للدولة الأموية، كان يضعها في قلب التاريخ. لم يكن ذلك مجرد قرار سياسي، بقدر ما كان إعلانا عن ولادة أفق جديد: دمشق لم تعد فقط مدينة رومانية عتيقة أو مركزا بيزنطيا منسيا، بل صارت قلب العالم الإسلامي النابض.

في عهد الأمويين، ارتفعت قباب الجامع الأموي كأحد أعظم الشواهد المعمارية، وامتدت الطرق من الأندلس غربا حتى تخوم الهند شرقا، لتجعل من دمشق مركز إشعاع حضاري. لم يكن الأمويون مجرد حكام، بل صانعي هوية؛ هوية عربية إسلامية عابرة للأقاليم، فيها من الصرامة السياسية بقدر ما فيها من التنوع الثقافي.

سوريا الحديثة: بحث عن ذات جديدة

مع دخول القرن العشرين، وسقوط الدولة العثمانية وما تلاه من احتلال فرنسي، ثم ولادة الدولة السورية الحديثة، عاد السؤال من جديد: من نحن؟

الهوية السورية اليوم لا تُعرّف فقط بالانتماء الديني أو الإمبراطوري، بل تحاول أن تمسك بخيوط كثيرة: الوطنية السورية الجامعة، والعروبة، والتعدد الطائفي والإثني، والانفتاح على العالم. إنها هوية تتشكل في ظل الجغرافيا الصعبة والسياسة المعقدة، حيث تتنازعها التيارات، ويضغط عليها الماضي بقدر ما يلحّ عليها المستقبل.

في خضم الحروب والانقسامات، وفي ظل بحث السوريين عن معنى جامع لهم بعد عقود من الأزمات، تبدو الحاجة ملحة إلى صياغة هوية سورية متجددة، تتجاوز الانقسامات وتستفيد من الموروث

بين التوتر والالتحام

يرى البعض أن استدعاء الهوية الأموية اليوم قد يغري بالحنين إلى نزعة إمبراطورية لا تتماشى مع فكرة الدولة الوطنية الحديثة، فيما يعتبر آخرون أن تجاهل الأمويين يعني بتر أهم فصل في تكوين الشخصية السورية.

إعلان

والأصح أن الهوية الأموية ليست نقيض الهوية السورية، بل هي جزء منها؛ طبقة عميقة من الذاكرة يمكن أن تغني الحاضر إذا أُحسن استحضارها. فالمسألة ليست أن نعيد دمشق عاصمة إمبراطورية، بل أن نفهم أنها عاشت في لحظة من التاريخ مركزية عالمية لا مثيل لها، وأن السوري اليوم يحمل في لاوعيه أثرا من تلك المركزية.

نحو هوية سورية متجددة

في خضم الحروب والانقسامات، وفي ظل بحث السوريين عن معنى جامع لهم بعد عقود من الأزمات، تبدو الحاجة ملحة إلى صياغة هوية سورية متجددة، تتجاوز الانقسامات وتستفيد من الموروث. هذه الهوية ينبغي أن تقوم على ثلاثة أبعاد:

  • الاعتزاز بالماضي الأموي وما مثّله من إشعاع عالمي، من دون تحويله إلى قيد سياسي.
  • الانفتاح على جميع الطبقات الحضارية السورية، من الفينيقية إلى المعاصرة.
  • تجسيد قيم المواطنة الحديثة: (حرية، عدالة، مشاركة)، وهي قيم لم تعرفها سوريا في معظم تاريخها الحديث.

إذا استطاع السوريون أن يروا في أمويتهم رافدا لا عبئا، وفي سوريتهم الحاضرة مشروعا لا أزمة، عندها فقط يمكن لدمشق أن تعود

سوريا بين الهوية الأموية والهوية السورية ليست في صراع، بل في حوار داخلي طويل؛ فالأموية كانت مرحلة الانفتاح العربي الإسلامي الأكبر، والهوية السورية اليوم تبحث عن صياغة وطنية جامعة. وإذا استطاع السوريون أن يروا في أمويتهم رافدا لا عبئا، وفي سوريتهم الحاضرة مشروعا لا أزمة، عندها فقط يمكن لدمشق أن تعود، لا كعاصمة إمبراطورية، بل كمدينة قادرة على أن تكون من جديد مرآة للشرق ومختبرا للمستقبل.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان