تُعد منطقة الشرق الأوسط من أكثر مناطق العالم تعقيدا، حيث تتشابك فيها العوامل التاريخية والجيوسياسية بعمق. فمنذ توقيع اتفاقية سايكس- بيكو 1916، غدت المنطقة مسرحا لصراعات متواصلة وتحديات متجددة. واليوم، تشهد المنظومة الدولية تحولات بنيوية عميقة تعيد رسم خرائط النفوذ الجيوسياسي، بما يستدعي استشراف السيناريوهات المقبلة.
تهدف هذه القراءة إلى تحليل التحولات الجيوسياسية في الشرق الأوسط، واستجلاء انعكاساتها على الأوضاع الراهنة والمستقبلية، في ضوء الأحداث الأخيرة.
الإرث التاريخي وتأثيره على الحاضر
تأسست المنطقة العربية على أنقاض الدولة العثمانية، بعد أن أفضت اتفاقية سايكس- بيكو إلى تقسيم النفوذ بين القوى الاستعمارية، خصوصا فرنسا، وبريطانيا، وزُرع الكيان الاستيطاني الإسرائيلي في قلب الأمة العربية، في أكثر مناطقها حساسية وأهمية من منظور الجيوبوليتيك؛ ما أسهم في إنتاج هياكل سياسية هشة.
ولا يزال هذا الإرث يلقي بظلاله على الحاضر، حيث تواصل النزاعات زعزعة استقرار المنطقة، كما يتجلى في المشهد السوري.
هذا المسار لم يكن وليد اللحظة، بل نتاج تحولات سابقة أفضت إلى نهاية الثنائية القطبية وهيمنة الولايات المتحدة عقب الحرب الباردة، ثم انخراط المنطقة في أزمات وثورات وحروب أهلية وإقليمية جعلت النظام الأمني العربي هشا ومعقدا، محكوما بالتبعية ومثقلا بالضعف.
وربما نشهد اليوم تحولات جديدة قد تُفضي إلى ملامح نظام عالمي متعدد الأقطاب مع صعود قوى آسيوية ووسط آسيوية.
شهدنا مؤخرا تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة على مشروع قرار "إعلان نيويورك"، الذي يتيح حل الدولتين واستقلال فلسطين. لكن، هل هذا الحل قابل للتطبيق عمليا؟
التحولات الجيوسياسية في الشرق الأوسط
من الربيع العربي إلى "طوفان الأقصى"، يبرز الشرق الأوسط مختبرا للتغيرات المتسارعة؛ حيث تتحول دوله تدريجيا من موقع المتلقي للتأثيرات الدولية إلى موقع الفاعل في صياغة مساراتها، أو في أحيان أخرى موقع المفعول به.
فمع سقوط نظام الأسد، كثفت إسرائيل استهدافاتها لسوريا، ودعمت جماعات انفصالية في الجنوب السوري وكذلك "قسد" في الشمال الشرقي، فيما تواصل حربها الاستيطانية التوسعية على غزة قصفا وتهجيرا وتدميرا، في محاولة لتصفية القضية الفلسطينية وإكمال المشروع التوسعي لنتنياهو.
ولعل استهداف الدوحة عبر قصف مقر هيئة التفاوض الفلسطينية يمثل تحولا خطيرا يهدد أمن الخليج برمته، ويعيد خلط الأوراق بالنسبة إلى الدول التي طبعت أو منحت إسرائيل فرص السلام، خصوصا مع تصريحات نتنياهو بأنه "سيعيد رسم خريطة النفوذ في الشرق الأوسط الجديد".
وهو تصريح يعكس مواقفه الأكثر صهيونية وعدائية، المستندة إلى أيديولوجيا مرضية تتجاوز قواعد العمل السياسي والدبلوماسي، متجاهلا القانون الدولي والشرعية الدولية، وسط عجز المجتمع الدولي عن تحمل مسؤولياته تجاه فلسطين، التي بلغت قضيتها ثمانية عقود دون حل عادل وشامل.
كما شهدنا مؤخرا تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة على مشروع قرار "إعلان نيويورك"، الذي يتيح حل الدولتين واستقلال فلسطين. لكن، هل هذا الحل قابل للتطبيق عمليا؟ فرغم تأييد غالبية الدول لإعلان نيويورك، يبقى السؤال: هل ثمة آليات عملية تضمن التطبيق وتُخضع نتنياهو للمساءلة كمجرم حرب؟
إن فائض القوة العسكرية والتكنولوجية، المدعوم أميركيا، منح إسرائيل جرأة على شن هجمات واسعة في إطار "طوفان الأقصى" على لبنان، وإيران، وغزة، وسوريا، وصولا إلى قصف الدوحة واستهداف السيادة القطرية ووساطتها ورعايتها جهود التفاوض.
قد يشهد الشرق الأوسط تحولات إيجابية عبر تعزيز التعاون الاقتصادي بين دول الخليج وشرق آسيا، ولا سيما مع الصين، في إطار مبادرة "الحزام والطريق"
يمضي نتنياهو في مشروعه القائم على بث الفوضى الخلاقة وتمريرها إلى أقاليم وكيانات جديدة، خدمة لحلمه في أن تكون إسرائيل القوة المهيمنة إقليميا. وفي هذا السياق، يمكن تصور سيناريوهين رئيسيين للمستقبل:
السيناريو الأول: استمرار التصعيد والتمزق الداخلي
من المرجح استمرار النزاعات الإقليمية، مع تصاعد التوتر بين إسرائيل وحماس، خاصة بعد "طوفان الأقصى" والعمليات في غزة. عقلية نتنياهو القائمة على تعزيز الاستيطان تعقد فرص السلام وتفتح المجال أمام نزاعات ممتدة، لا تقتصر على غزة، بل قد تشمل سوريا، ولبنان، وربما الأردن، ومصر، ودول الخليج.
هذا التصعيد يهدد وحدة الدولة القُطرية، ويزيد احتمالات التمزق الداخلي والحروب الطائفية، ويضع الدول العربية أمام تحديات عسكرية وسياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية متشابكة. وقد تجد بعض الدول نفسها مضطرة إلى عقد تحالفات جديدة، أو تعديل نظمها السياسية والدستورية، على غرار النموذج السوري.
السيناريو الثاني: التقارب العربي والإقليمي وإعادة التوازن الاقتصادي
على الضفة الأخرى، قد يشهد الشرق الأوسط تحولات إيجابية عبر تعزيز التعاون الاقتصادي بين دول الخليج وشرق آسيا، ولا سيما مع الصين، في إطار مبادرة "الحزام والطريق".
هذا التعاون قد يقلل من الاعتماد على الغرب ويزيد من ثقل المنطقة على الساحة الدولية.
أعتبرُ هذا السيناريو الأنسب في التوقيت الراهن، إذ يمثل مشروعا مضادا لأطروحة نتنياهو التفكيكية، خاصة في ظل ضعف الردع العربي.
إن أولوية سوريا والمنطقة عموما هي التنمية والاستقرار وإعادة الإعمار، وهو ما يناقض مشروع نتنياهو. لذا فإن بناء تعاون عربي-عربي وإسلامي-إقليمي، مع آسيا الوسطى والدول المناصرة لقضايانا، هو الخيار الأكثر واقعية ونجاعة، عبر إيجاد آليات وفرص تعاون متكامل الجوانب.
مستقبل الشرق الأوسط بعد 2025 رهين بقدرة القوى الإقليمية والدولية على التعامل مع التحديات. ويتطلب تعزيز الاستقرار والتنمية المستدامة رؤية إستراتيجية متوازنة، تأخذ بعين الاعتبار المخاطر والفرص
آليات التصدي والمواجهة
تقتضي مواجهة مشاريع التفكيك في الشرق الأوسط أن تراهن دول المنطقة على بدائل إستراتيجية ضمن ثلاثة مستويات:
- المستوى الوطني: استكمال عملية بناء الدولة، بمؤسساتها السياسية والاقتصادية والأمنية، كإحدى آليات مواجهة التدخلات الخارجية.
- المستوى الإقليمي: صياغة مشروع تكاملي يعكس المصالح الحيوية لدول المنطقة، ويعبر عن إرادتها السيادية بعيدا عن ضغوط القوى الكبرى.
- المستوى الدولي: تنويع الشركاء الإستراتيجيين لكسر دوائر التبعية، وتوسيع شبكة العلاقات بما يتجاوز الاقتصار على دول بعينها.
الخاتمة
إن مستقبل الشرق الأوسط بعد 2025 رهين بقدرة القوى الإقليمية والدولية على التعامل مع التحديات المحلية. ويتطلب تعزيز الاستقرار والتنمية المستدامة رؤية إستراتيجية متوازنة، تأخذ بعين الاعتبار المخاطر والفرص.
على صناع القرار العرب والمسلمين أن يعملوا بخطوات منسقة لمواجهة التحديات المتنامية، والحفاظ على الأمل في تحقيق السلام.
وفي ظل التحولات البنيوية الراهنة التي تعيد رسم خرائط النفوذ وتختبر نماذج جديدة لإدارة العلاقات الدولية، فإن استعداد دول المنطقة لمواجهة المستقبل يتطلب وعيا عميقا بالمخاطر، وإحباط المشاريع التوسعية، وتعزيز التعاون الإقليمي والدولي، وصياغة إستراتيجيات فعالة لمواجهة التفكيك والتمدد الذي يهدد استقرارها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

