ارتفاع الطلاق وعزوف الشباب عن الزواج.. أزمة تهدد الأسرة العربية

الكاتب: الطلاق، وإن كان حلا مشروعا في الإسلام، يجب أن يمارَس بأخلاق عالية، بعيدا عن الفضيحة والتشهير (غيتي إيميجز)

في السنوات الأخيرة، برزت ظاهرة مثيرة للانتباه في مجتمعاتنا العربية، وهي ارتفاع نسبة العزوف عن الزواج لدى الشباب، بالتوازي مع تصاعد معدلات الطلاق، وهما ظاهرتان ترتبطان بشكل وثيق ببنية الأسرة وتجدد الأجيال.

هذه الظواهر ليست مجرد أرقام إحصائية أو موضوعات للنقاش اليومي، بل مؤشرات على تغيرات عميقة قد تحمل تبعات اجتماعية وثقافية وسياسية، تستوجب وقفة تأمل حقيقية، ونقاشا موضوعيا بعيدا عن الانفعالات والأحكام المسبقة.

من المهم التأكيد على أن الزواج والطلاق ظاهرتان اجتماعيتان لهما أسباب متعددة ومتداخلة، ولا يمكن اختزالهما في تجارب شخصية أو مواقف انفعالية

إن ما يجعل هذه الظاهرة خطيرة ليس ارتفاع نسب العزوف والطلاق فحسب، وإنما الطريقة التي يُناقش بها الموضوع، خاصة عبر منصات التواصل الاجتماعي.

فبينما يُفترض أن تكون هذه المنصات فضاءات للحوار وتلاقي الأفكار، تحولت إلى ساحات حرب باردة بين الرجال والنساء، تغذيها سرديات متشنجة ومتحاملة في كثير من الأحيان، وتُستغل أحيانا لخدمة أجندات شخصية أو جماعية بعيدة عن الهدف الحقيقي: فهم الواقع وتقديم حلول.

ومن الملاحظ أن كثيرا من النقاشات الدائرة حول الزواج والطلاق تستند إلى تجارب شخصية محدودة، أو إلى انطباعات غير مدعمة بدراسات أو بيانات علمية، وهو ما يُضعف مصداقيتها ويحولها إلى سجالات شخصية لا تخدم المصلحة العامة.

إضافة إلى ذلك، برزت ظاهرة الحسابات الوهمية التي تنسج قصصا من الخيال، وتهدف إلى تأجيج النزاع بين الجنسين من خلال تصوير كل طرف على أنه عدو للآخر، مما يوسع الفجوة بينهما بدلا من أن يكونا شريكين في بناء مجتمع متماسك.

وهنا تكمن الخطورة الحقيقية؛ فبدلا من مناقشة أسباب هذه الظواهر من خلال تحليل معمق وعلمي، يتم توظيفها لتغذية النزاعات الاجتماعية، ما يؤدي إلى مزيد من الانقسام داخل الأسرة والمجتمع، ويعطل فرص الحلول البناءة. وبدلا من أن تساهم وسائل التواصل في التقريب بين وجهات النظر وتعزيز الحوار، نجدها في كثير من الأحيان تُعمق الشرخ وتُذكي نار الخصومات.

إعلان

من المهم التأكيد على أن الزواج والطلاق ظاهرتان اجتماعيتان لهما أسباب متعددة ومتداخلة، ولا يمكن اختزالهما في تجارب شخصية أو مواقف انفعالية.

فهناك عوامل هيكلية تلعب دورا محوريا في التوجهات الجديدة للشباب، منها الأبعاد الاقتصادية مثل البطالة وغلاء المعيشة وارتفاع تكاليف الزواج، ومنها الاجتماعية والثقافية مثل تغير أدوار الجنسين وتفاوت مستويات التعليم، وأحيانا الأزمات النفسية التي يعاني منها الشباب تحت وطأة الضغوط الاجتماعية.

إن الخطوة الأولى في معالجة هذه الظاهرة تكمن في تبني مقاربة علمية وموضوعية. علينا أن نرجع إلى الدراسات الميدانية والإحصاءات المحكمة لفهم أبعاد المشكلة بشكل أفضل

لقد وصف القرآن الكريم العلاقة الزوجية بأنها قائمة على المودة والرحمة، لا على القوة أو السيطرة أو الغلبة. قال تعالى:
﴿ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودَة ورحمة﴾ [الروم: 21].

فالزواج في جوهره رباط مقدس يتطلب رعاية دائمة لا استهلاكا وقتيا. كما أن الطلاق، وإن كان حلا مشروعا في الإسلام، يجب أن يُمارَس بأخلاق عالية، بعيدا عن الفضيحة والتشهير: ﴿فإمساكٌ بمعروفٍ أو تسريحٌ بإحسانٍ﴾ [البقرة: 229].

وعليه، فإن الحل لا يكمن في إلقاء اللوم على طرف دون آخر، بل في إعادة بناء ثقافة أسرية جديدة، قائمة على الاحترام والحوار، والاستعداد النفسي والمعرفي لتحمل مسؤولية الارتباط.

نحن بحاجة إلى سياسات عامة تدعم الشباب، وتؤهل المقبلين على الزواج، وتوفر منصات استشارية موثوقة، بدلا من تركهم ضحايا لنصائح "الترندات" السريعة أو "القصص الملهمة" الزائفة.

وفي هذا السياق، لا يمكن إغفال تأثير وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، التي ترسم أحيانا صورة مبسطة أو مغلوطة عن الزواج، وتمنع تقديم صورة واقعية متوازنة، خاصة عندما تُستغل من أجل تصعيد النزاعات أو خلق استقطابات على أساس الجنس أو الرأي. إن الإعلام الحديث أداة قوية، وقد تكون تأثيراته إيجابية أو سلبية، تبعا لكيفية استخدامه.

لذلك، فإن الخطوة الأولى في معالجة هذه الظاهرة تكمن في تبني مقاربة علمية وموضوعية. علينا أن نرجع إلى الدراسات الميدانية والإحصاءات المحكمة لفهم أبعاد المشكلة بشكل أفضل.

على سبيل المثال: هل ارتفاع معدلات الطلاق مرتبط بغياب برامج التأهيل الأسري؟ هل تأجيل الزواج مرتبط بارتفاع تكاليف المعيشة، أم برغبة الشباب في التركيز على التنمية الذاتية قبل الارتباط؟ وهل هناك علاقة بين المشكلات النفسية أو الاجتماعية وبين التفكك الأسري؟ هذه الأسئلة وغيرها تحتاج إلى إجابات مدعومة بأرقام وتحليلات دقيقة.

نحن بحاجة إلى وقفة تأمل جماعية، تشمل كل أطياف المجتمع: من أكاديميين، وخبراء نفسيين واجتماعيين، وصناع قرار، وأفراد من الشباب أنفسهم، ليتمكن الجميع من التعبير عن وجهات نظرهم بحرية، ولكن أيضا بمسؤولية

إن النقاش العلمي يمكن أن يفتح أبواب الحلول العملية، مثل تطوير برامج دعم الشباب، وتقديم الاستشارات الأسرية، وتعزيز الثقافة المجتمعية التي تركز على الحوار والتفاهم بين الزوجين، والحد من الخطاب التحريضي أو التعميمي الذي يؤجج الكراهية.

إعلان

كما يمكن أن يساعد في توجيه السياسات الاجتماعية والاقتصادية التي تسهم في تخفيف الضغوط التي تواجه الأسر الجديدة.

والأهم من ذلك أن نبتعد عن انتظار الفضائح أو الأزمات التي تشتعل في الإعلام أو على منصات التواصل؛ إذ غالبا ما تُستغل هذه الأحداث بشكل فج لتكريس وجهة نظر معينة، بدلا من أن تكون نقطة انطلاق لحوار هادئ وبنّاء.

إن تأجيج الأزمة لا يؤدي إلا إلى مزيد من الانقسام والاحتقان، ويعطل فرصة بناء جسر تفاهم بين الرجال والنساء.

في النهاية، نحن بحاجة إلى وقفة تأمل جماعية، تشمل كل أطياف المجتمع: من أكاديميين، وخبراء نفسيين واجتماعيين، وصناع قرار، وأفراد من الشباب أنفسهم، ليتمكن الجميع من التعبير عن وجهات نظرهم بحرية، ولكن أيضا بمسؤولية.

فالحوار المنفتح المبني على الاحترام المتبادل والحقائق العلمية هو السبيل الوحيد لتجاوز هذه الأزمة، التي لو استمرت على نفس المنوال قد تؤثر سلبا على استقرار الأسرة، وتجدد الأجيال، واستدامة النسيج الاجتماعي.

إن الأسرة ليست مجرد مؤسسة اجتماعية تقليدية، بل هي نواة المجتمع وأساسه، وأي خلل في بنيتها ينعكس على المجتمع بأسره. لذلك، من الضروري أن نأخذ هذه الظواهر على محمل الجد، وأن نعمل جميعا- بعقلانية وموضوعية- على فهمها ومعالجتها، بعيدا عن العواطف والاتهامات.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان