فرنسا.. قبل أن تتحول الديوك إلى بيتزا

تباطؤ نمو الاقتصاد بفرنسا نتيجة تراجع الاستهلاك
الكاتب: لا يمكن تناول فرنسا بعيدا عن نافذة منطقة اليورو التي تشكل القوة الثالثة في الاقتصاد العالمي بعد الولايات المتحدة والصين (الجزيرة)

"بلادنا تسير نائمة نحو جدار الديون، في ظل يقظة عالمية من مستثمري السندات بشأن السياسات المالية".. هكذا وصف فرانسوا فيليروا دي غالو، حاكم بنك فرنسا المركزي، قبل ثلاثة أشهر، الأزمة الاقتصادية المحدقة ببلاده، التي تجمع بين ديون عامة وعجز مالي مرتفعين مع تباطؤ ملحوظ في النمو، وذلك في ظل اضطراب سياسي أبرز ملامحه برلمان مفتت بلا تحالف أغلبية، وحكومات أقلية متعاقبة لا تستطيع تمرير ميزانية التقشف المقترحة.

عند غيوم ذلك المشهد، يقف الآن النموذج الاجتماعي الفرنسي القائم على دولة الرفاه أمام تحديات كبيرة متراكمة لم يشهدها منذ تأسيسه عقب الحرب العالمية الثانية؛ فالدولة ذات الإنفاق الحكومي الأعلى عالميا كنسبة من الناتج المحلي (55%) حسب صندوق النقد الدولي، لم تعد قادرة على تحمل رومانسية وأعباء العقد الاجتماعي السخي جدا بينها وبين مواطنيها.

يأتي سبتمبر/أيلول الجاري مترجما أشياء هامة؛ حيث سجلت عوائد السندات لأجل عشر سنوات أكبر ارتفاع لها في نسختها الفرنسية بنحو 0.9% منذ يناير/كانون الثاني 2024 حتى سبتمبر/أيلول 2025

الديون ترسم خريطة الأزمة

لا يمكن تناول فرنسا بعيدا عن نافذة منطقة اليورو التي تشكل القوة الثالثة في الاقتصاد العالمي بعد الولايات المتحدة والصين. تعمل تلك القوة كاتحاد نقدي متكامل من عشرين دولة بعملة موحدة تسيطر على خُمس الاحتياطيات العالمية، وبنك مركزي مشترك (ECB) يقرّ سياسة نقدية موحدة لدول اليورو، ولكن بسياسات مالية مختلفة ومستقلة لكل دولة.. وهنا أصل المشكلة.

إذ إن سندات كل دولة في منطقة اليورو ترسم بوضوح تباينا واسعا في السياسات المالية لكل منها؛ حيث الشمال المنضبط والمقتصد ماليا بديون وعجز منخفضين (ألمانيا، هولندا، النمسا، فنلندا).. والجنوب المثقل والمقيد بديونه القياسية وأزماته المستمرة (إيطاليا، اليونان، البرتغال).. والوسط الرمادي التائه بين نفقات اجتماعية توسعية وديون مرتفعة وعجز مالي يتسع (فرنسا، إسبانيا، بلجيكا).

إعلان

الخطر هنا أن فرنسا ما زالت في الوسط لكنها تميل إلى الجنوب؛ فالجميع يتخوف من تكرار التجربة الإيطالية في فرنسا، التي تعد ثاني أكبر مصدر للديون في منطقة اليورو بعد إيطاليا، وثالث أكبر دين عام كنسبة للناتج المحلي بنحو 114% بعد اليونان (160%)، وإيطاليا (138%)، وصاحبة ثالث أعلى عجز مالي بنحو 5.5% مبتعدة عن السقف الأوروبي عند 3%.

ليأتي سبتمبر/أيلول الجاري مترجما أشياء هامة على ظلال ما سبق؛ حيث سجلت عوائد السندات لأجل عشر سنوات أكبر ارتفاع لها في نسختها الفرنسية بنحو 0.9% منذ يناير/كانون الثاني 2024 حتى سبتمبر/أيلول 2025، بالمقارنة مع نظيرتها في ألمانيا (0.6%)، واليونان (0.3%) فقط، وإيطاليا حيث المفاجأة (-0.2%).

هذا بخلاف خفض وكالة "فيتش" الأميركية لتصنيف فرنسا إلى (A+) مع نظرة مستقبلية مستقرة، رغم التشكيك في القدرة على كبح لجام الديون والعجز واستعادة نشاط النمو.

تتضمن خطة عمل تلك الميزانية مزيجا مائلا للتقشف، يوازن بين مثلث الحماية الاجتماعية وخفض الإنفاق وزيادة الإيرادات؛ بغية تحريك الاقتصاد في اتجاه عرضي يتجه لاستقرار الدين العام والسيطرة على العجز المالي

سيناريوهات ماكرون للتعامل مع الأزمة

باقٍ من الزمن رسميا 20 شهرا على نهاية فترة حكم الرئيس إيمانويل ماكرون، فهل يستطيع الرجل إنقاذ اقتصاد بلاده وتجاوز الأزمة السياسية الحالية والإفلات من احتمال الانتخابات المبكرة وإكمال مدته كما أكد هو إلى مايو/أيار 2027؟!.. الإجابات هنا مفتوحة على عدة سيناريوهات متدرجة المخاطر في ظل حراك شعبي متواصل.

  • أولا: سيناريو الصدمة المتكررة

بحل الجمعية الوطنية (البرلمان) وفقا للمادة 12 من الدستور، حيث فعلها ماكرون في يونيو/حزيران 2024، ولم تسفر عن نتائج إيجابية حقيقية تقوي موقفه بأغلبية موالية. ويستطيع فعلها ثانية الآن بعد مرور أكثر من عام على الحل السابق.

لكن تلك الخطوة سوف تأتي بالأسوأ؛ فكل ما سبق سوف يتفاقم نظرا لارتفاع تكاليف المخاطر، حيث المزيد من الديون والعجز وتباطؤ النمو، وعوائد أعلى للسندات الفرنسية (OATs) واتساع الفارق مع نظيرتها الألمانية، وضغط على اليورو مقابل الدولار نتيجة لتراجع الثقة والاستقرار في ثاني أكبر اقتصاد بمنطقة اليورو.

  • ثانيا: سيناريو التهدئة والتثبيت

وذلك عبر التظاهر رسميا باحترام واستيعاب طلبات الشارع، في ظل محاولات لتشكيل حكومة ولو حتى أقلية لتمرير ميزانية 2026 أمام البرلمان؛ إما بتحالفات حزبية تدعم ذلك، أو بإجراءات استثنائية بقرارات دستورية وإدارية لتمريرها.

تتضمن خطة عمل تلك الميزانية مزيجا مائلا للتقشف، يوازن بين مثلث الحماية الاجتماعية وخفض الإنفاق وزيادة الإيرادات؛ بغية تحريك الاقتصاد في اتجاه عرضي يتجه لاستقرار الدين العام والسيطرة على العجز المالي.

سيناريو ماكرون وشركائه -إن تحقق- سوف تنظر له المؤسسات الأوروبية والأسواق المالية بعيون القبول والارتياح، لما يعنيه من استقرار الأوضاع السياسية والاقتصادية بضبط مالي نسبي في ظل تقشف خفيف

  • ثالثا: سيناريو توافق الكتل الوازنة

حيث الطريق إلى تأليف أغلبية مطلقة (289 من أصل 577 عضوا) في الجمعية الوطنية بتحالف قوى اليسار المعتدل مع الوسط الذي يمثله ماكرون وبعض الأعضاء المستقلين، لتشكيل حكومة وسط موسعة تعمل حسب خطة توافقية معتدلة يقتسمها الجميع.

سيناريو ماكرون وشركائه -إن تحقق- سوف تنظر له المؤسسات الأوروبية والأسواق المالية بعيون القبول والارتياح، لما يعنيه من استقرار الأوضاع السياسية والاقتصادية بضبط مالي نسبي في ظل تقشف خفيف، يحسن مؤقتا من ثقة المستثمرين، وينعكس إيجابا على التصنيف الائتماني، وسلبا على عوائد السندات.

إعلان

ختاما

هناك من يرى على الضفة الغربية من الأطلسي أن إضعاف منطقة اليورو يصب في صالح الدولار الأميركي. وها هو واقع الديوك الفرنسية بصخبه الداخلي يسمح -مع الوقت- بإيطاليا جديدة.. فهل تستيقظ فرنسا وتفوت عليهم الفرصة؟!.. سنرى.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان