كيف تؤثر موجات الحر على الدماغ والصحة النفسية؟

تعرّف الموجة الحارة بأنها ارتفاع مفاجئ في درجات الحرارة عن معدلاتها في مكان ما، بفارق كبير مقارنة بالمعدلات الطبيعية لهذا المكان.
الكاتب: من آثار موجات الحر المتكررة ما نشهده من تلف المحاصيل نتيجة الإجهاد الحراري، فضلا عن حرائق الغابات والجفاف (شترستوك)
  • حفلة شواء ذات صيف.. ما يفعله الحر بأدمغتنا

ضربت العالم موجة حر شديدة أخرى، تمركزت بقبتها الحرارية فوق شرقنا الأوسط المشتعل أصل،ا وكأننا في حفلة شواء! موجة قاسية في حدتها، وقياسية في معدل تكرارها وارتفاع حرارتها، وصلت إلى أرقام مخيفة، حيث تجاوزت عتبة الـ 50 درجة مئوية في مناطق متفرقة من العراق، وبلغت 47 درجة مئوية في مصر شمالا، واقتربت من 50 درجة في جنوبي البلاد.

القبة الحرارية مرة أخرى

القبة الحرارية ظاهرة مناخية ينحصر فيها الهواء الساخن في منطقة محددة تحت ظروف ضغط جوي مرتفع وسطوع شمسي قوي؛ مما يرفع درجات الحرارة المحسوسة بشكل كبير.

ومع غياب التبريد الذي كان يتم بتأثير التيار النفاث القادم من شمالي المحيط الأطلسي- كما يؤكد علماء المناخ- نتيجة التغيرات المناخية التي سببتها الأنشطة البشرية الكثيفة، تتفاقم آثار موجات الحر ومعدلات تكرارها وحدتها عاما بعد عام.

ومن بين آثار موجات الحر المتكررة ما نشهده من تلف المحاصيل نتيجة الإجهاد الحراري، فضلا عن حرائق الغابات والجفاف. غير أن أحد أخطر هذه الآثار يتمثل في تأثيرها المباشر على أجسادنا، وبالأخص على أدمغتنا.

يعد الدماغ البشري -كما يقول العلماء- أكثر أعضاء الجسم استهلاكا للطاقة؛ فهو ينتج حرارة ذاتية عند القيام بالعمليات الذهنية المختلفة من تفكير وتفاعل وتنبيه سائر أعضاء الجسم بوظائفها

حفلة شواء داخل الدماغ

هل سألت نفسك يوما: لماذا نبدو أكثر حدة وعصبية، وأسرع غضبا وعنفا واكتئابا، خلال موجات الحر في أشهر الصيف الطويلة وتحت قيظ شمسها الملتهبة، وكأن رؤوسنا في حفلة شواء؟ ولماذا تتأثر حالتنا المزاجية بهذا الشكل الحاد والسريع في أيامه الحارة؟

إنها الحرارة.. المتهم الأول دائما؛ فهي لا تسبب ضربات الشمس فحسب، ولا تزيد الإجهاد الحراري علينا وعلى سائر الأحياء فحسب، بل تؤدي إلى ما هو أخطر: تغيير كيمياء الطرق التي تعمل بها أدمغتنا.

فقد نقلت وكالات أنباء عن طبيب الأعصاب البريطاني "سانجاي سيسوديا"، الرائد في مجال تأثير المناخ على الدماغ، قوله: "تساءلت في نفسي: لماذا لا يؤثر المناخ أيضا على الدماغ؟ ففي النهاية، هناك العديد من العمليات في الدماغ مرتبطة بكيفية تعامل الجسم مع الحرارة".

الدماغ والتكيف الحراري

يعد الدماغ البشري -كما يقول العلماء- أكثر أعضاء الجسم استهلاكا للطاقة؛ فهو ينتج حرارة ذاتية عند القيام بالعمليات الذهنية المختلفة من تفكير وتفاعل وتنبيه سائر أعضاء الجسم بوظائفها. إنه أشبه بـ"مايسترو" يدير فرقة موسيقية، يتحكم في كل شيء لتخرج السيمفونية منضبطة.

إعلان

نادرا ما ترتفع درجة حرارة الدماغ عن المتوسط الأساسي لحرارة الجسم، إذ تساعده شبكة من الأوعية الدموية في نقل وتوزيع وتبريد الدم والتخلص من الحرارة الزائدة، حفاظا على درجة الحرارة الطبيعية التي تسمح بعمل العمليات الحيوية بشكل سليم.

ويؤكد العلماء أن أدمغتنا شديدة الحساسية تجاه الحرارة، لأن وظيفة بعض الجزيئات الناقلة للرسائل بين الخلايا العصبية تعتمد على درجة الحرارة، ما يعني أن كفاءتها تتأثر إذا خرجت عن معدلاتها الطبيعية.

يحذر العلماء من أن الإجهاد الحراري يؤدي إلى تباطؤ وظائف الدماغ والشعور بالإعياء وضعف الانتباه واليقظة؛ ولهذا نشعر بالخمول والبطء في أجواء الحر

ضعف التكيف الحراري

الخطر يكمن في تزايد درجات الحرارة وما تسببه من إجهاد حراري على الدماغ، مما يجعله- كما يؤكد د. سانجاي- "أكثر عرضة للتلف وبالتالي للإصابة بأمراض عصبية تنكسية". كما أن الحرارة تضعف الحاجز الواقي للدماغ، فيصبح أكثر هشاشة وقابلية للاختراق، مما يزيد خطر تسلل السموم والفيروسات إلى أنسجته.

لقد أصبح تغير المناخ وتكرار موجات الحر واقعا بيئيا جديدا لا مفر من التكيف معه، خصوصا مع ما يرافقه من آثار متطرفة تهدد الإنسان والأنظمة البيئية كافة.

وهنا تبرز الحاجة إلى إستراتيجيات عاجلة لحماية الفئات الأضعف: الأطفال، وكبار السن، والمرضى؛ فهم الأكثر عرضة لمخاطر هذه الظواهر.

فالأطباء يؤكدون أن ارتفاع الحرارة يضر بالنمو العصبي للأطفال وحديثي الولادة، مما يعرضهم لإصابات مزمنة تؤذي جهازهم العصبي على المدى الطويل، وتزيد خطر إصابتهم بأمراض مثل الضعف الإدراكي والصرع.

ومع كبار السن، ترتفع احتمالات الإصابة بالسكتات الدماغية وضربات الشمس، وهو ما يرفع نسب الوفيات المرتبطة بالحرارة.

ويحذر العلماء من أن الإجهاد الحراري يؤدي إلى تباطؤ وظائف الدماغ والشعور بالإعياء وضعف الانتباه واليقظة؛ ولهذا نشعر بالخمول والبطء في أجواء الحر، إذ يبذل الدماغ جهدا مضاعفا لمحاولة تبريد الجسم، مما يؤثر على وظائفه الإدراكية الأخرى.

يؤكد العلماء أن اضطراب النوم في الليالي الحارة يؤثر مباشرة في الاستيعاب والتركيز ويزيد التشتت وسرعة الانفعال. والسبب أن الحرارة تؤثر على "السيروتونين"، الناقل العصبي المنظم للحالة المزاجية

أدمغة منكمشة وأصغر حجما

لا يتوقف الخطر عند ضربات الشمس والأمراض العصبية؛ فحجم الدماغ البشري نفسه مهدد بالانكماش. ففي دورية Brain, Behavior and Evolution، خلصت دراسة إلى أن استمرار ارتفاع درجات الحرارة قد تكون له آثار سلبية على حجم الدماغ البشري وقدراته الإدراكية والمعرفية.

الليل الحار والنوم الغاضب

في ليالي الصيف العادية، تكون الأجواء ألطف وتسمح لنا بالتنزه والترويح عن النفس. لكن في ليالي الموجات الحارة يختلف الأمر؛ فمع توقف حركة الهواء وارتفاع الرطوبة، تتأثر أدمغتنا سلبا، وتختل أمزجتنا ونومنا.

ويؤكد العلماء أن اضطراب النوم في الليالي الحارة يؤثر مباشرة في الاستيعاب والتركيز ويزيد التشتت وسرعة الانفعال. والسبب أن الحرارة تؤثر على "السيروتونين"، الناقل العصبي المنظم للحالة المزاجية، الذي ينقل معلومات حرارة الجلد إلى منطقة ما تحت المهاد في الدماغ.

هناك تضبط استجابة الجسم بالارتعاش أو التعرق، مما يجعلنا نغرق في العرق ليالي الحر وتضيع منا ساعات النوم، فنصبح أكثر توترا وعرضة للأرق.

ختاما

فحاول -عزيزي القارئ- ألا تغضب، وتعلم التأقلم مع موجات الحر؛ فهي واقع سيلازمنا طويلا. ابتعد عن الشمس قدر المستطاع، فالشمس هذه الأيام فيها سم قاتل، وحافظ على برودة دماغك؛ ففيه ما يكفيه من الحرارة وغير الحرارة.

إعلان

وكن رحيما بمن يعمل في الخارج طلبا للرزق، وتذكر إخوانك الذين اجتمع عليهم جحيم الحر والحرب. واحرص على حماية الأطفال وكبار السن بإبقائهم في أماكن باردة مكيفة، ولا عزاء لانقطاع الكهرباء.

وتذكر -يا صديقي- تلك المقولة الباردة المبهجة القادمة من وراء "وينترفيل": الشتاء قادم.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان