لا يمكن اختزال غزة في صور الدمار وأرقام الضحايا التي تتصدر نشرات الأخبار؛ فهي تمثل فكرة أعمق، ورمزا لإرادة حياة صلبة في مواجهة مخطط ممنهج للمحو والإبادة.
فالحرب الدائرة على أرضها تتجاوز المواجهة العسكرية، لتصبح حربا وجودية تستهدف الإنسان الفلسطيني، وتستخدم كل الأدوات الممكنة، من القتل المباشر إلى التجويع والتهجير، بهدف كسر هذه الإرادة، وإفراغ الأرض من أهلها.
تتحول الأرقام الصادرة عن المنظمات الدولية إلى شهادة دامغة على هذه الإستراتيجية؛ فوفقا لوكالة الأونروا، نزح نحو 90% من سكان القطاع من بيوتهم، بينما تؤكد الأمم المتحدة أن المجاعة، التي لم يشهدها الشرق الأوسط من قبل، أصبحت واقعا ملموسا.
هذه الأرقام ليست مجرد "أضرار جانبية" للحرب، بل هي نتيجة مباشرة لسياسة متعمدة، تهدف إلى جعل الحياة في غزة مستحيلة، ودفع سكانها إلى خيار وحيد: الرحيل.
تحولت منطقة المواصي، وهي رقعة ساحلية ضيقة لا تتجاوز مساحتها 13 كيلومترا مربعا، إلى أكبر معسكر اعتقال بشري في العصر الحديث، بعد أن حُشر فيه ما يقارب 800 ألف إنسان من نازحي مدينتي رفح وخان يونس
يتجلى المنطق السياسي لهذه الإستراتيجية في مفهوم "المنطقة الآمنة"، الذي تروّج له آلة الحرب الإسرائيلية، حيث يتم توجيه السكان بشكل قسري تحت القصف والمجازر للنزوح جنوبا نحو المواصي، تحت وهم النجاة، لتتحول هذه المواصي إلى مقابر جماعية وخيام عزاء؛ فالقصف الذي يستهدف المستشفيات ومراكز الإيواء وخيام النازحين في المواصي ليس عشوائيا، بل هو رسالة واضحة مفادها: "لا مكان آمنا لكم في قطاع غزة.. عليكم بالهجرة".
لقد تحولت منطقة المواصي، وهي رقعة ساحلية ضيقة لا تتجاوز مساحتها 13 كيلومترا مربعا، إلى أكبر معسكر اعتقال بشري في العصر الحديث، بعد أن حُشر فيه ما يقارب 800 ألف إنسان من نازحي مدينتي رفح وخان يونس.
هذا التكدس البشري في مساحة لا تتسع لشيء سوى المعاناة، يمثل نموذجا مصغرا للغيتو الذي يراد لنازحي مدينة غزة (المليون) أن يتكدسوا فيه، لتكون النتيجة محاصرة كل أهل قطاع غزة بين الجوع والمرض والقصف، في انتظار موت بطيء أو النجاة بالنفس عبر الهجرة القسرية.
ولا تقتصر الحرب على الضغط العسكري على أهل غزة للنزوح، بل تمتد لتشمل حربا اقتصادية تجعل حتى النزوح- لمن يريده- شبه مستحيل؛ فقد كشفت شهادات من داخل غزة لصحيفة "هآرتس" الإسرائيلية عن التكلفة الباهظة للنزوح، والتي تصل إلى ما يقارب 12 ألفا و500 شيكل (نحو 3400 دولار) للعائلة الواحدة.
هذا الرقم لا يعكس مجرد تكلفة لوجيستية، بل يكشف عن آلية طبقية قاسية تجعل الفقراء، الذين يشكلون الغالبية العظمى من السكان، هم الأكثر عرضة للموت، فهم محاصرون ليس فقط بالقنابل، بل بعجزهم المادي أيضا؛ فبعد عامين من الحرب، استُنزفت المدخرات، وتلاشت القدرة على البدء من جديد. من استطاع النزوح في البداية كان يملك بقية أمل ومال، أما اليوم، فلم يعد لدى الغالبية سوى أجسادهم المنهكة وإصرارهم على البقاء.
الاختيار المستحيل الذي تفرضه آلة الحرب: إما الموت السريع بـ"عزة زائفة"، أو الموت البطيء بـ"ذل مؤكد" في خيام النزوح
أمام هذا الواقع، يتجذر قرار البقاء والتشبث بالأرض كفعل مقاومة أخير.. هذا ليس عنادا عدميا، بل هو وعي عميق بأن مغادرة الديار تمثل تحقيقا للسطر الأخير في خطة محوهم من الوجود. فالبقاء في المنازل، حتى وإن تحولت إلى ركام، هو خط الدفاع الأخير عن الهوية والوجود.
لكنّ هذا القرار لا يأتي دون ثمن باهظ، فذاكرة التجربة المريرة تخبرهم أن الصمود في البيوت قد ينتهي بهم إما شهداء تحت الأنقاض، أو أسرى، أو نازحين يواجون المجهول المرعب بدون مقومات حياة:
يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، بلا غطاء أو ماء أو مأوى يحفظون فيه كرامتهم! من هنا يبرز منطق آخر يقول إن النزوح المبكر- على مرارته- قد يتيح للمرء أن ينقذ ما يمكن إنقاذه، وأن يأخذ معه ما يخفف عنه وطأة الحياة في النزوح.
يبدو أنه الاختيار المستحيل الذي تفرضه آلة الحرب: إما الموت السريع بـ"عزة زائفة"، أو الموت البطيء بـ"ذل مؤكد" في خيام النزوح.
هذه الثنائية القاتلة هي جوهر الحرب النفسية التي تمارَس على أهل غزة، والتي تهدف إلى تحطيمهم من الداخل، وجعلهم يشعرون بأن لا خيار أمامهم سوى الاستسلام لمخطط التهجير.
غزة، في نهاية المطاف، ليست مجرد جغرافيا من حجر ورمل، بل هي عقيدة راسخة في قلب كل إنسان حر، ونبض حياة عنيد لن يتمكن الموت من إخماده أبدا
ورغم ذلك، وفي مواجهة هذا الواقع المرير، ابتكر الإنسان الفلسطيني مقاربة ثالثة، تتمثل في الصمود في المنزل حتى آخر لحظة ممكنة، مع إرسال مقتنيات الحياة الأساسية إلى أقارب في الجنوب، لتكون بمثابة درع لمواجهة مصير النزوح المحتوم حال اضطروا للخروج.
ختاما، من رحم هذا الألم والدخان، يولد نور الإرادة! فالإنسان في غزة، الذي كُتب عليه انتظار الموت، قرر أن يهزمه بالحياة نفسها.
ومثلما تُبعث المدن العظيمة من رمادها، يبقى الأمل متجددا.. يمتزج الدعاء باليقين في مناجاة تهتز لها القلوب: "اللهم أنت الذي رددتنا إلى غزة، فنقسم عليك بعزتك ألا تُخرجنا منها مقهورين.. اللهم أبقِ لنا غزة، وأبقنا لغزة".
لأن غزة، في نهاية المطاف، ليست مجرد جغرافيا من حجر ورمل، بل هي عقيدة راسخة في قلب كل إنسان حر، ونبض حياة عنيد لن يتمكن الموت من إخماده أبدا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

