عندما حارب سارتر في صف المقاومة

صورة تجمع جان بول سارتر مع الثائر تشي جيفارا (مواقع التواصل)
صورة تجمع جان بول سارتر مع الثائر تشي جيفارا (مواقع التواصل)

حين يذكر جان بول سارتر يستدعى إلى الذهن فورا الفيلسوف والكاتب الفرنسي الذي صاغ معالم الوجودية الحديثة، وعُرف بجرأته الأخلاقية والفكرية، ونزعته الوجودية التحررية التي جعلت من الحرية والإرادة عبئا وجوديا لا مفر منه، ومن الإنسان كائنا مسؤولا عن مصيره وخياراته في هذا العالم.

ولكن هذا المفكر الفرنسي، الذي يعد من بين أشهر فلاسفة القرن العشرين وأحد أبرز رموز الثقافة الغربية، والذي كان يرتدي معطفا أنيقا ويكتب في مقاهي باريس عن القلق والحرية والعدم والوجود، كانت له ميزة استثنائية جعلته يحظى بمكانة خاصة في صفوف النخب العربية في أواسط القرن العشرين، ويشغل فكرهم وأقلامهم، ويؤثر في نمط عيشهم وتفكيرهم.

فمن هو سارتر؟ ولماذا حظي بهذا التأثير البالغ في نفوس شعوب الدول المحتلة؟

يعرف سارتر بنظريته "الوجود يسبق الماهية"، التي ترى أن الإنسان لا يولد وهو يحمل معنى محددا أو غاية جاهزة، بل يوجد أولا ثم يصنع ذاته عبر أفعاله

الفلسفة والوعي الجديد

يعد القرن العشرون مرحلة مفصلية في تاريخ الفلسفة؛ إذ لطالما قدم الفلاسفة سابقا مفاهيم محدودة للوعي بالذات، محصورة في النفس والروح والأنا.

غير أن الفلسفة الحديثة حملت نقلة نوعية، إذ برز فيها انشغال متزايد بأسئلة الوعي والوجود، وبينت أن الفهم لم يعد ممكنا من داخل أنساق مغلقة أو مفاهيم شمولية، بل صار مشروطا بالتحولات التاريخية والسياسية واللغوية.

تزامن ذلك مع ما شهدته البشرية من دمار واسع خلال الحربين العالميتين، وما نتج عنه من شك عميق في القيم الإنسانية والأخلاقية التي طالما تغنى بها الغرب. وقد تجسد ذلك في بروز تيارات فكرية جديدة، أبرزها الوجودية، التي كان من روادها هايدغر وفوكو وسارتر.

الوجود يسبق الماهية

يعرف سارتر بنظريته "الوجود يسبق الماهية"، التي ترى أن الإنسان لا يولد وهو يحمل معنى محددا أو غاية جاهزة، بل يوجد أولا ثم يصنع ذاته عبر أفعاله. لا قدر محتوما، ولا جوهر ثابتا، وإنما الإنسان مسؤول عن نفسه عبر خياراته.

الحرية هنا ليست امتيازا بل عبئا ثقيلا، كما عبر عنها بقوله الشهير: «الإنسان محكوم عليه بأن يكون حرا». فلا يجوز أن يتذرع المرء بـ«المجتمع صنعني» أو «هكذا ولدت». فحتى الصمت أو الخضوع أو التقاعس هو اختيار حر يصنع به الإنسان ماهيته. ومن هذا المنطلق بالذات تبلورت مواقفه من الاحتلال والمقاومة.

تأييده العلني لحركات التحرير لم يمر دون ثمن. فقد هوجم بشدة في فرنسا، ووصِف بالخائن وعدو الوطن، واتهم بتحريض الجزائريين على قتل الفرنسيين، ومع ذلك ظل ثابتا على موقفه، رافضا التراجع

المقاومة في فكر سارتر

يتجلى مفهوم المقاومة في كتاباته بوصفه خيطا ناظما في رؤيته الفلسفية وأعماله الأدبية. فقد ظهر مبكرا في كتاب الوجود والعدم، حيث صاغ موقفه من "الآخر الذي يسلبني حريتي"، معتبرا أن الآخر قد يكون جحيما. وقدم هذا التصور مسرحيا في: "الآخرون هم الجحيم".

إعلان

وفي مقالاته بمجلة جمهورية الصمت، برزت مواقفه من الاحتلال النازي، حيث احتفى بالمقاومين ودافع عن كرامة الإنسان في وجه الاستبداد. وعزز ذلك من خلال مسرحية "الذباب" وسيناريو فيلم "المقاومة".

ثم جاءت مواقفه الأكثر وضوحا في دعمه للثورة الجزائرية، خاصة في مقاله الشهير "عارنا في الجزائر"، المنشور عام 1957 في مجلة لي تان مودرن التي كان يشرف عليها. أدان فيه الاستعمار الفرنسي بحدة، وانتقد التعذيب الذي مارسه الجيش ضد الجزائريين، واعتبر ما يحدث عارا أخلاقيا للشعب الفرنسي بأسره، لا فقط للسلطة أو الجيش.

المثقف الملتزم

«كلما كتب سارتر كتب عنه»- عبارة عبدالكبير الخطيبي التي تختصر صورة المثقف الملتزم عند سارتر. فهو لم يكتب في عزلة نظرية، بل انخرط في قضايا عصره، شاعرا بمسؤوليته الأخلاقية تجاه الإنسان وصراعاته.

خطاباته لم تكن مجرد تأملات فلسفية معزولة، بل جزءا من حركة التاريخ نفسها، تحرك الضمائر وتزرع الوعي الثوري. وفي هذا الصدد كتب في جمهورية الصمت: «كانت مسألة الحرية بالذات مطروحة.. قدرته على مقاومة التعذيب والموت».

لكن تأييده العلني لحركات التحرير لم يمر دون ثمن. فقد هوجم بشدة في فرنسا، ووصِف بالخائن وعدو الوطن، واتهم بتحريض الجزائريين على قتل الفرنسيين، ومع ذلك ظل ثابتا على موقفه، رافضا التراجع.

كم نحن بحاجة اليوم إلى مثل هذا النموذج الذي يشحذ الهمم، وينير البصائر، ويبعث الأمل في نفوس الشباب، لأجل أن يستفيق العقل ويقاوم العدو

سارتر والعرب

كتب خيري منصور في مجلة الفكر العربي المعاصر (العدد الثالث) مقالا بعنوان "سارتر والعرب"، قال فيه: «لدى قراءة ما يكتبه مثقفو العرب عن سارتر، نشعر كما لو أنه هو من اكتشفنا. وقد لا نبالغ إذا قلنا إنه من صنعنا نحن منذ استضافته في مكتباتنا… إنه الأكثف حضورا في شؤوننا كلها: في الأدب كما في السياسة، في نمطي السلوك كما في النوايا. إنه بهذا المعنى قرين مرحلة».

بإمكانك أن تتبنى أفكار سارتر أو ترفضها، أو أن تأخذ ببعضها كما أفعل شخصيا. لكن ما لا يختلف فيه اثنان هو القيمة التي يمثلها بوصفه نموذجا للمثقف الملتزم العضوي، ذاك الذي يضع يده على علل مجتمعه، ويعبر عن قضاياه، ويساهم في وعيه وتنظيمه، مناصرا له بجرأة وشجاعة.

فكم نحن بحاجة اليوم إلى مثل هذا النموذج الذي يشحذ الهمم، وينير البصائر، ويبعث الأمل في نفوس الشباب، لأجل أن يستفيق العقل ويقاوم العدو.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان