شعار قسم مدونات

"مجزرة الساحل": ناقوس خطر لا ورقة ضغط فقط!

SYRIA-CONFLICT
قوات سورية تتمركز عند نقطة تفتيش في مدينة اللاذقية الساحلية (الفرنسية)
  • حين تصبح الذاكرة وسيلة ابتزاز في غياب الكفاءة القانونية

لم يكن التقرير الاستقصائي الأخير، الذي نشرته وكالة رويترز حول ما يُعرف إعلاميًّا بـ"مجزرة الساحل"، مجرد سرد توثيقي لأحداث مؤلمة من بدايات الحرب السورية، بل كان -بكل وضوح- جزءًا من خطاب سياسي موجه، يحمل في طياته إشارات تحذيرية وتهديدات ضمنية، ليس إلى الدولة السورية القديمة فحسب، بل إلى ما يُفترض أنه "وجهها الجديد" بعد الثورة والتغيير.

بعيدًا عن العبارات الدبلوماسية، فإن هذا النوع من التقارير الاستقصائية، حين يُطرح بهذا التوقيت وبهذا الإخراج، لا يمكن قراءته إلا كمحاولة ابتزاز سياسي ممنهج، يأتي ضمن سلسلة أوراق ضغط ستستخدمها الأطراف الدولية في ملفات العدالة الانتقالية، والمصالحة، والتطبيع، والتفاوض حول مستقبل السلطة.

لكن الأكثر إيلامًا من مضمون التقرير نفسه، هو هشاشة رد الفعل الرسمي عليه، والذي أظهر أن البنية القانونية والسياسية للحكومة الجديدة ما زالت مفتوحة على الاختراق، بل تكاد تكون مفرغة من أدوات المناعة السيادية.

الإصرار على إبقاء طيف واسع من الطاقم الإداري والإعلامي والقانوني القديم، دون غربلة أو تجديد، أضعف هيبة الدولة الجديدة، وأظهرها كنسخة مهزوزة من سابقاتها، لكنها بلا غطاء شرعي دولي هذه المرة

قراءة قانونية.. التقرير كأداة ضغط لا آلية مساءلة

وفقًا للقانون الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949، فإن أي سلوك يصنَّف على أنه "جريمة حرب" أو "جريمة ضد الإنسانية" يخضع لمعايير صارمة في الإثبات القضائي، وليس للتقدير الإعلامي أو النشر الصحفي.

كما أن النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية (روما، 1998) يشترط توفر عناصر الركن المادي والمعنوي، مع وجود نيّة ممنهجة، وإثبات علاقة السببية المباشرة.

وبالتالي، فإن:

  • اعتماد رويترز على مصادر أحادية، وشهادات غير موثقة بشكل قضائي، يُفقد التقرير حياده، ويحوّله من وثيقة مساءلة إلى أداة دعائية.
  • تجاهل التقرير سياق المعركة العسكرية، وجرائم التنظيمات المسلحة المعارضة في نفس الفترة الزمنية، يُضعف من مصداقيته القانونية.
  • توقيت التقرير -بعد سنوات من الصمت- يتقاطع مع تصاعد الضغوط الغربية بشأن "شكل الدولة السورية القادمة"، وموقعها من التطبيع والانفتاح.
إعلان

أزمة الدولة الجديدة.. بقاء الرداءة وتدوير العجز

كان يُفترض أن تكون مرحلة ما بعد التحرير السوري نقطة انطلاق نحو بناء دولة القانون والمؤسسات، لا مجرد تغيير في الوجوه، بيد أن الإصرار على إبقاء طيف واسع من الطاقم الإداري والإعلامي والقانوني القديم، دون غربلة أو تجديد، أضعف هيبة الدولة الجديدة، وأظهرها كنسخة مهزوزة من سابقاتها، لكنها بلا غطاء شرعي دولي هذه المرة.

ومن أبرز أوجه الخلل:

  • غياب المستشارين القانونيين الدوليين عن دوائر صنع القرار.
  • غياب إستراتيجية إعلامية قانونية تراعي بيئة النزاع والعدالة الانتقالية.
  • ضعف التأهيل في التعامل مع الصحافة الدولية والمنظمات غير الحكومية.
  • الاعتماد على خطاب إنكاري ساذج بدل إستراتيجية تفنيد قانونية قائمة على المبادئ القانونية المقبولة دوليًّا.

ليست خطورة التقرير في تفاصيله، ولا في حجم الانتقادات التي يتضمنها، بل في هشاشة الدولة السورية الجديدة تجاهه. فالتاريخ، حين لا يُكتب بيد العدالة والسيادة، يُكتب على طاولات المقايضة الدولية

العدالة الانتقالية ليست مشروع استسلام

أخطر ما قد ينتج عن هذا الاستقصاء، إن لم يواجَه بسياسة وازنة، هو فرض أجندة عدالة انتقالية مفصّلة خارجيًا، تحت عناوين براقة مثل: "المصالحة"، و"كشف الحقيقة".

وقد سبق أن حذّر المقرر الخاص للأمم المتحدة، المعني بتعزيز الحقيقة والعدالة (A/69/518)، من أن فشل الدول في قيادة هذه العملية، ضمن مقاربة وطنية، يؤدّي إلى فقدان السيادة السياسية والقانونية.

وعليه، فإن قبول الحكومة الجديدة بهكذا عملية انتقالية تملى من الخارج، دون هيكلة داخلية نزيهة وشفافة، سيكون انتحارًا سياديًا بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

توصيات عملية عاجلة

  • تشكيل هيئة قانونية سيادية مستقلة لإعداد رد علمي تفصيلي على تقرير رويترز، يُنشر باللغتين العربية والإنجليزية، ويتضمن تفنيدًا قانونيًا دقيقًا، لا مجرد إنكار إعلامي.
  • إطلاق مشروع وطني للعدالة الانتقالية، يقوده قضاة ومحامون مشهود لهم بالنزاهة من الداخل، ويرتكز على نماذج عالمية مثل "لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب أفريقيا"، مع مراعاة السياق السوري.
  • فصل الكفاءات الفاشلة والمتورطة بالصمت أو التواطؤ عن مواقع القرار، والاستعانة بجيل قانوني جديد لديه دراية بالقانون الجنائي الدولي وآليات التقاضي الدولية.
  • إنشاء وحدة متخصصة في القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان، ضمن وزارة العدل أو وزارة الخارجية، تكلَّف بالتواصل مع المنظمات الأممية والرد على المزاعم، ومتابعة أي إجراءات قضائية محتملة ضد الدولة أو مسؤوليها.
  • تبني مبدأ "الشفافية المدروسة" في تناول ملفات الماضي، بما يعيد الثقة بين الدولة والمجتمع، دون فتح الباب للابتزاز أو الانتقام.

المطلوب ليس الدفاع عن الماضي، بل بناء بنية قانونية وطنية قادرة على حماية المستقبل؛ فمن لا يُحصّن ذاكرته بالقانون، تُسرق سيادته بالاستقصاء

إن لم تُحصّن الدولة ذاكرتها سُرقت سيادتها

ليست خطورة التقرير في تفاصيله، ولا في حجم الانتقادات التي يتضمنها، بل في هشاشة الدولة السورية الجديدة تجاهه. فالتاريخ، حين لا يُكتب بيد العدالة والسيادة، يُكتب على طاولات المقايضة الدولية.

إن استمرار الحكومة في إدارة الملفات الحساسة بعقلية الخوف من الاعتراف، أو التستر على الفشل، لن يُثمر سوى مزيد من التقارير، والاتهامات، ثم العقوبات، وربما ما هو أسوأ.

المطلوب ليس الدفاع عن الماضي، بل بناء بنية قانونية وطنية قادرة على حماية المستقبل؛ فمن لا يُحصّن ذاكرته بالقانون، تُسرق سيادته بالاستقصاء.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

إعلان

إعلان