شعار قسم مدونات

أزمات مفهوم الديمقراطية وانعكاساتها في أميركا وإسرائيل

مدرسة مصطفى حافظ بغزة.. القنابل الإسرائيلية تحوّل مأوى نازحين إلى "محرقة"
القنابل الإسرائيلية تحوّل مأوى نازحين إلى "محرقة" (الجزيرة)

تُعدّ الديمقراطية من أهم المفاهيم السياسية المعاصرة، التي تُقدم نفسها كضمان للحرية والعدالة والمساواة بين المواطنين. لكنها، عند التدقيق في بنيتها الفلسفية والسياسية، تكشف عن أزمات بنيوية عميقة تعرقل تحقيق هذه القيم على أرض الواقع.

هذه الأزمات تنبع من أساس تشكيل الديمقراطية كنظام حكم يقوم على مبدأ حكم الأغلبية، أو كما يُطلق عليه "حكم الأكثرية".

ازدواجية المعايير التي تتحكم بممارسة الديمقراطية؛ حيث تتبنى الدولة الأم شعارات الحرية والمساواة وسيادة القانون، بينما تطبق خارج حدودها سياسات وحشية شرسة ضد الشعوب الأخرى

ورغم ما يبدو من بريق شعاري يبشر بالمساواة والحرية، فإن حقيقة الأمر أن الأغلبية قد تكون، وفق رؤية الفلاسفة الكلاسيكيين كأفلاطون وأرسطو، "غوغاء" أو "دهماء" و"رعاعًا"، ما يفضي إلى حكم فاسد لا يخدم مصلحة الجميع، بل مصلحة هذه الأغلبية ذاتها، التي قد تكون فاسدة ومحدودة في رؤيتها ومصالحها.

تتجلى الأزمة الثانية في تمثيلية الديمقراطية التي تركز على فئة الأغلبية فقط، ما يحوِّل الفئات الأخرى إلى هامش سياسي يُحيَّد من خلاله صوتهم وقرارهم، ويُحسبون زورًا ضمن الأكثرية.

هذا الوضع يحرم العديد من الأفراد والجماعات من المشاركة الفعلية في صنع القرار، ويُنتج استقطابًا اجتماعيًا وسياسيًا حادًا، يؤدي إلى إضعاف شرعية النظام الديمقراطي ذاته.

أما الأزمة البنيوية الثالثة، فتتمثل في ازدواجية المعايير التي تتحكم بممارسة الديمقراطية؛ حيث تتبنى الدولة الأم شعارات الحرية والمساواة وسيادة القانون، بينما تطبق خارج حدودها سياسات وحشية شرسة ضد الشعوب الأخرى.

هذه الازدواجية تكشف عن تناقض صارخ يستوجب إعادة النظر في تطبيق الديمقراطية كمفهوم عالمي، خصوصًا في سياقات الاستعمار الحديث والهيمنة الإمبريالية.

الأزمة الرابعة ترتبط بصلاحية التقييم الديمقراطي، فغالبًا ما يُترك قرار ما إن كانت ممارسة معينة ديمقراطية أم لا لجهات أو أطراف تمارس التلاعب بالمفهوم، خصوصًا حين يصبح القتل والتدمير أدوات لحماية الديمقراطية ومحاربة "التطرف"، ما يبرر العنف وينزع عن الديمقراطية طابعها الحقوقي والإنساني.

إعلان

أما الأزمة الخامسة، فهي التحول المريع للديمقراطية من نظام حكم إلى أيديولوجية شمولية، حيث يسود التعصب والإقصاء تجاه المعارضين والمختلفين، ما يحوِّل الديمقراطية إلى أداة قمعية تخالف جوهرها الأصلي.

تستخدم الولايات المتحدة والحكومة الإسرائيلية شعارات الديمقراطية والحرية كغطاء لممارسات عنيفة واستعمارية، تشمل الاحتلال والاستيطان وانتهاك حقوق الإنسان، ما ينفي تطبيق القيم الديمقراطية الحقيقية خارج حدود الدولة الأم

هذه الأزمات البنيوية أسفرت عن خمس نتائج واضحة، خصوصًا في التجربة السياسية لأميركا وإسرائيل.

  • النتيجة الأولى هي تقويض مبدأ سيادة الشعب، حيث يُفترض أن الديمقراطية تلتزم بإرادة الأغلبية، لكن على أرض الواقع في أميركا وإسرائيل، ورغم معارضة واسعة للحروب، مثل تلك الدائرة على غزة، تستمر قيادات مثل ترامب ونتنياهو في المضي قدمًا في تلك الحروب، ما يجعل الديمقراطية مجرّد شعار بلا مضمون.
  • النتيجة الثانية تتجلى في تمجيد هيبة الدولة على حساب الأقليات، فتسود في أميركا سياسات تستهدف الأقليات الإثنية، بينما في إسرائيل تتعرض الفئات الفلسطينية للتمييز والاضطهاد، في ظل غياب تمثيل سياسي حقيقي لهم.
  • النتيجة الثالثة هي ازدواجية القيم في السياسة الخارجية، حيث تستخدم الولايات المتحدة والحكومة الإسرائيلية شعارات الديمقراطية والحرية كغطاء لممارسات عنيفة واستعمارية، تشمل الاحتلال والاستيطان وانتهاك حقوق الإنسان، ما ينفي تطبيق القيم الديمقراطية الحقيقية خارج حدود الدولة الأم.
  • النتيجة الرابعة تتعلق بالعسكرة المفرطة للديمقراطية، حيث يتم تبرير التدخلات العسكرية والحروب على أساس حماية الديمقراطية ومحاربة الإرهاب، وهذا يعزز من ثقافة العنف ويضعف أسس التسامح والعدالة.
  • أما النتيجة الخامسة فهي التحول إلى أيديولوجية شمولية، تظهر في تصنيف المعارضين على أنهم "متطرفون" في أميركا، وفي محاولة إسرائيل قمع أي نقد للصهيونية، ما يحوِّل الديمقراطية إلى أداة للقمع الفكري والإعلامي.

في الختام، تؤكد هذه القراءة النقدية أن الديمقراطية، كما تمارسها الولايات المتحدة وإسرائيل، تحمل تناقضات جوهرية بين شعاراتها النظرية وممارساتها العملية، وهذا يستدعي إعادة تفكير جذرية في فهمنا للديمقراطية، ليس فقط كنظام حكم، بل أيضًا كنموذج سياسي وأخلاقي يحترم الجميع، ويضمن العدالة والحرية والمساواة حقًا لا مجرد خطاب.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان