تشهد غزة منذ شهور حربًا تتجاوز منطق القصف والدمار المعتاد، لتدخل في مستوى أكثر خبثًا ووحشية: حرب التجويع الممنهج.
لم تعد القيود على المساعدات والحصار الاقتصادي مجرّد أدوات ضغط مؤقتة، بل إستراتيجية محكمة لإخضاع مجتمعٍ بأكمله، وإدارة معاناته وفق منطق القوّة المطلقة.
ما يحدث اليوم في القطاع ليس مجرّد خرقٍ للقانون الدولي الإنساني، بل إعادة إنتاجٍ صارخة للمعادلة الاستعمارية الكلاسيكية: السيطرة على الأجساد من خلال حرمانها من أبسط ضرورات البقاء. إنها عملية تحويل الطعام والدواء من حقوقٍ أساسية إلى امتيازات مشروطة بالخضوع السياسي.
يكمن العبث الأخلاقي الأكبر في هذا المشهد في تحويل المحتلّ نفسه -المسؤول المباشر عن خلق الأزمة- إلى "منسّق إنساني" يحدّد من يحقّ له الحياة، ومن عليه الانتظار
عندما يصبح الخبز رهينة السياسة
منذ اليوم الأول للعدوان، فرضت سلطات الاحتلال قيودًا صارمة على إدخال المواد الحيوية إلى غزة، ما خلق كارثة إنسانية مضاعفة. وبحسب تقرير منظمة العفو الدولية لعام 2024، فإن إدارة هذه السياسة لا تخضع لمنطق الإغاثة الإنسانية، بل لمنطق العقاب الجماعي المحض.
تُحوَّل المساعدات إلى ورقة تفاوضية معقّدة، حيث تُفرض شروط أمنية تعجيزية على دخولها، وتُستخدم كوسيلة ضغطٍ سياسي مباشر. هذا التوظيف السياسي للحاجات الإنسانية الأساسية يُشكّل، وفقًا للجنة الأمم المتحدة لتقصّي الحقائق، جريمة ضد الإنسانية بموجب المادة السابعة من نظام روما الأساسي.
المطلوب اليوم يتجاوز مجرّد تسريع دخول الشاحنات أو زيادة كميات المساعدات. الحاجة ملحّة إلى تفكيك المنطق الجذري الذي يجعل من حياة المدنيين ورقة مساومة سياسية
المحتلّ كـ"منسّق إنساني": مفارقة أخلاقية صادمة
يكمن العبث الأخلاقي الأكبر في هذا المشهد في تحويل المحتلّ نفسه -المسؤول المباشر عن خلق الأزمة- إلى "منسّق إنساني" يحدّد من يحقّ له الحياة، ومن عليه الانتظار. تُفحَص المساعدات وتُقيَّد وتُوجَّه من قِبل الجهة نفسها التي تقصف المستشفيات والمخابز، في تناقض صارخ مع أبسط مبادئ العدالة.
يتم التعامل مع السكان كـ"ملفّ لوجيستي" قابل للإدارة، لا كضحايا لجرائم حرب موثّقة. هذه الممارسة تُجسّد ما يسميه الفيلسوف السياسي "Thomas Pogge" بـ"الظلم البنيوي" (structural injustice)، حيث تُفرَّغ المبادئ الإنسانية من مضمونها الحقيقي، ويُعاد تعريف الحقّ في الحياة كامتياز سياسي مشروط، لا كحقّ طبيعي غير قابل للمساومة.
يؤكّد "Pogge" في كتابه "World Poverty and Human Rights" أن النظام الدولي لا يكتفي بعدم معالجة الفقر والمعاناة، بل يساهم فعليًا في إنتاجهما وهيكلتهما من خلال مؤسساته وسلوك فاعليه الرئيسيين.
إن ما يحدث في غزة اليوم ليس مجرّد فصلٍ عابر في الصراع، بل هو اختبارٌ حقيقيٌّ لضمير العالم، وقدرته على التمييز بين العدالة والظلم، بين الحقّ والقوّة، بين الكرامة الإنسانية ومنطق الهيمنة الاستعمارية
ما وراء المقاربة الإغاثية: نحو فهمٍ تحرّري للحقوق
المطلوب اليوم يتجاوز مجرّد تسريع دخول الشاحنات أو زيادة كميات المساعدات. الحاجة ملحّة إلى تفكيك المنطق الجذري الذي يجعل من حياة المدنيين ورقة مساومة سياسية.
عندما تتحوّل المعونات إلى أداة طيّعة بيد القوة الاستعمارية، فإننا لا نواجه مجرّد "أزمة إنسانية" عابرة، بل جرائم منظّمة تُمارَس علنًا وسط صمتٍ دوليٍّ مُخزٍ.
لا يمكن لمجتمعٍ دوليٍّ يدّعي الدفاع عن سيادة القانون أن يبقى متفرّجًا على مشاهد التجويع الجماعي المتعمَّد، أو أن يبرّر استخدام الغذاء كسلاح حرب. المساعدات ليست منحة ولا صدقة، بل هي حقٌّ مكفول؛ وليست منّةً من المحسنين، بل هي التزام قانوني وأخلاقي مطلق.
المقاربة الإنسانية الحقيقية يجب ألا تُختزل في لغة العاطفة أو في البُعد الإغاثي المؤقت. يجب أن تُستعاد بوصفها مقاربة تحرّرية شاملة، تُعيد للإنسان الفلسطيني كرامته الكاملة، وحقّه المطلق في تقرير مصيره، خارج منطق الاحتلال "المنظّم" ومعادلاته الاستعمارية المدمّرة.
إن ما يحدث في غزة اليوم ليس مجرّد فصلٍ عابر في الصراع، بل هو اختبارٌ حقيقيٌّ لضمير العالم، وقدرته على التمييز بين العدالة والظلم، بين الحقّ والقوّة، بين الكرامة الإنسانية ومنطق الهيمنة الاستعمارية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

