تحيط بنا البيئة من كل مكان، وتوفّر لنا ولغيرنا من الكائنات كل مقومات الحياة التي تكفل بقاءنا واستمراريتنا، وتقوم الحياة بفضل التوازن بين مكونات النظام البيئي وعناصره، وهو كلمة السر التي تضمن استقرار تلك العناصر في معادلة الحياة.
والنظام البيئي بمكوناته ليس نظامًا ساكنًا، بل هو في حالة تفاعل ديناميكي مستمر، ويتحقق التوازن -كما يقول علماء البيئة- بقدرة النظام على العودة إلى وضعه الأول بعد أي تغير يطرأ عليه، دون حدوث تغير أساسي في مكوناته.
فالأكسجين الذي نتنفسه -وهو عنصر حيوي من عناصر الغلاف الجوي- يحافظ على استقرار نسبته في الجو من خلال تفاعلات عدة، ينقص خلالها ويزيد في دورة مستمرة من الاستهلاك والإنتاج، إلا أن نسبته تظل ثابتة في النهاية بشكل يضمن استمرار الحياة، التي تعتمد عليه ولا تقوم إلا به.
وتاريخ الحياة على الأرض هو تاريخ التفاعل بين الأحياء والبيئة المحيطة بها؛ وعبر مئات الملايين من السنين ظهرت الحياة التي تعمر الأرض الآن، وهي تنمو وتتطور بدقة وتوازن بين عناصرها.
ورغم الأحداث الطبيعية القاسية عبر تاريخ الأرض، استطاعت الحياة وأنظمتها البيئية التكيف والمواءمة حتى تستقر عناصرها إلى أن ظهر الإنسان، الذي كان بدوره في حالة تفاعل أيضًا مع محيطه البيئي باحثًا عن أسباب البقاء ومقومات الحياة.
بدأت الصدمة مع منتصف القرن التاسع عشر، وتحديدًا عام 1852، حين اكتشف الكيميائي الأسكتلندي روبرت سميث ظاهرة الأمطار الحمضية، أثناء قيامه بتحليل مياه الأمطار بالقرب من المنشآت الصناعية ذات المداخن الهائلة، في إنجلترا وأسكتلندا
الأثر البشري
لم يكن أثر الإنسان في بيئته كغيره من الأحياء؛ فبفضل تراكم تجاربه الحضارية، منذ العصور البدائية حتى العصر الحديث، تمكن البشر ليس فقط من الانتفاع بالبيئة، بل وصل التأثير التراكمي -بما طوره من وسائل وتقنيات- إلى تغيرات هائلة في بيئته المحيطة، شكلت ضغطًا هائلًا على النظام البيئي ومكوناته، واستنزافًا لعناصره، وإخلالًا بالتوازن بينها بشكل كارثي لم يحدث من قبل، كما تؤكد إليزابيت كولبرت في كتابها "الانقراض السادس" إذ تقول: "لم يسبق لأي مخلوق على هذا الكوكب أن غيّر الحياة بهذا الشكل من قبل".
ولكننا لم ندرك ذلك إلا مع بدايات القرن التاسع عشر -في أعقاب الثورة الصناعية الأولى- حين ظهرت الدراسات الخاصة بالبيئة والأحياء بشكل مكثف، وتطورت التقنيات المساعدة للرصد والتحليل والقياس، لتسجيل تلك التغيرات وتتبعها، حتى بدت ملامح الصدمة الإيكولوجية تظهر على الأنظمة البيئية وعلينا، فكانت الصدمة بوجهيها كارثة على البيئة وعلى البشر على السواء.
الصدمة الإيكولوجية الأولى.. الأمطار الحمضية
بدأت الصدمة مع منتصف القرن التاسع عشر، وتحديدًا عام 1852، حين اكتشف الكيميائي الأسكتلندي روبرت سميث ظاهرة الأمطار الحمضية، أثناء قيامه بتحليل مياه الأمطار بالقرب من المنشآت الصناعية ذات المداخن الهائلة، في إنجلترا وأسكتلندا، والتي أحالت أجواء وهواء المدن إلى ضباب ملوث، صار علامة مميزة لها ولتلك الحقبة.
لم يقف الأمر عند المطر الحمضي وآثاره الكارثية، التي شكلت صدمة إيكولوجية للتربة ومكوناتها، وتدميره لمساحات شاسعة من الأراضي الزراعية، وتسمم العديد من السكان والحيوانات بتلك المياه الملوثة، وتلف المحاصيل، وتشوه العديد من المباني والمنشآت نتيجة تفاعل المياه الحمضية مع مواد البناء، ما شكّل صدمة لغرب أوروبا الصناعية بأكملها في ذلك الوقت.
خاضت الدكتورة راتشيل كارسون معركة بكتابها ضد الحكومة الفدرالية وأصحاب الشركات، حتى وصل الأمر إلى تداول ما كتبته في جلسات الكونغرس، وانتهت إلى الاعتراف بتلك الآثار الكارثية، وإقرار قوانين للحد من استخدام تلك المبيدات القاتلة
الصدمة الإيكولوجية الثانية.. المبيدات القاتلة
لم تقف الصدمة البيئية عند الأمطار الحمضية، بل أضافت المبيدات التي ظهرت بعد ذلك، واستُخدمت على نطاق واسع، خاصة في الولايات المتحدة الأميركية، حين قامت الحكومة برش تلك المبيدات بكثافة بالطائرات فوق المزارع، للقضاء على الآفات والحشرات التي تسببت في تدمير وإتلاف العديد من المحاصيل، فجاءت الصدمة حيث تسربت تلك المبيدات الى مسام التربة، وترسبت إلى النباتات والمحاصيل، ووصلت الى مصادر الماء والغذاء؛ ما شكل تهديدًا خطيرًا لم يشعر به أحد إلا بعد ظهور آثارها الكارثية، التي دخلت النظام البيئي ولم تخرج منه بعد؛ فهي تحتاج مئات السنين حتى تتحلل وتخرج من النظام البيئي.
إلا أن آثارها لم تقف عند ذلك، بل امتدت إلى تغيرات تشبه أثر المواد المشعة في تغيير البنية الوراثية الجينية للأحياء، ما ساعد على ظهور طفرات وتشوهات، واختلال كبير في وظائف الخلايا والأنسجة، وعجّل بظهور السرطانات.
وقد عالجت تلك الصدمة وتصدت لها الدكتورة راتشيل كارسون، عالمة الأحياء الأميركية، التي ألفت كتابها الشهير "الربيع الصامت"، الذي يعد أول وأهم كتاب لنشر الوعي البيئي، محذرًا من المخاطر التي تهدد البيئة، وبالأخص تلك المبيدات القاتلة كل صور الحياة.
وقد خاضت معركة بكتابها ضد الحكومة الفدرالية وأصحاب الشركات، حتى وصل الأمر إلى تداول ما كتبته في جلسات الكونغرس، وانتهت إلى الاعتراف بتلك الآثار الكارثية، وإقرار قوانين للحد من استخدام تلك المبيدات القاتلة، والبحث في سبل وقاية طبيعية بدلًا من ذلك، وهذا يعد انتصارًا لكارسون، التي صارت رائدة للحركة البيئية العالمية بعد ذلك.
تقول كارسون في كتابها "الربيع الصامت": "يتعرض البشر جميعًا، ولأول مرة في تاريخ العالم، إلى ملامسة كيماويات خطيرة، من لحظة الحمل إلى يوم الموت، فلقد انتشرت المبيدات خلال العالم الحي وغير الحي بأكمله، حتى أصبحت موجودة الآن في كل مكان تقريبًا".
إنه ليس مجرد تغير طارئ على النظام البيئي، بل هو خلل بنيوي في تركيبة النظام البيئي، سيحتاج معه النظام عقودًا وعقودًا من السنين حتى يتعافى من تلك الآثار الكارثية؛ فالصدمة الإيكولوجية ليست مجرد تغيير يتعرض له النظام البيئي، بل هي تغيير كبير غير متوقع، وعلى نطاق واسع وخلال فترة زمنية قصيرة، ومن ثم فهو حدث كارثي مفاجئ، يسبب اضطرابًا كبيرًا في النظام البيئي، وخللًا في توازن مكوناته لا يمكن إصلاحه بسهولة.
من آثار الاحتباس الحراري الضغط والتأثير على الإنتاج الزراعي ودوراته، وقد شهدنا ذلك في العام 2022، حين ضربت الهند موجة حارة عنيفة في أبريل/ نيسان، سببت خسائر هائلة تقدر بملايين الأطنان، ما دفع الحكومة الهندية إلى اتخاذ قرار وقف تصدير القمح
ليس صدمة واحدة بل صدمات
والصدمة الإيكولوجية هنا لا تقف عند حدود النظام البيئي، بل تسبب بالتبعية صدمات أخرى اقتصادية واجتماعية وصحية وسياسية؛ فمن أمثلة الصدمات الإيكولوجية -غير ما ذكرنا- نجد تدمير الموائل الطبيعية، وفقدان التنوع البيولوجي، والتسبب في انقراض العديد من الأنواع الحية، ومنها -بل وعلى رأسها- المتهم الأكبر في تحولات بيئية كارثية كبرى، في عصرنا وفي المستقبل، ألا وهو التغير المناخي.
الصدمة المناخية واحترار الكوكب
والتغير المناخي -وهو لا يكفيه حيز المقال الصغير- يحدث بسبب خلل في مكونات التركيب الغازي للغلاف الجوي؛ نتيجة دخول كميات هائلة من الغازات الدفيئة التي تحبس الحرارة، ما يتسبب في تداعيات أخرى كمتوالية هندسية، أو كرة صخرية تتدحرج من أعلى قمة جبل إلى أسفله، ولا يستطيع أحد إيقافها.
ومما حذر منه العلماء أن الانبعاثات وصلت لمرحلة لا يمكن للنظام البيئي استيعابها أو تحملها، ما يشكل ضغطًا هائلًا عليه سيتجاوز به حدوده القصوى في التحمل، أو -كما يسميها علماء المناخ- النقاط الحرجة أو حدود اللاعودة، ما ينذر بتبعات كارثية أخرى على مختلف الأنظمة البيئية، من البحار والمحيطات التي تمتص المزيد والمزيد من غازات الاحتباس الحراري، وعلى رأسها ثاني أكسيد الكربون متسببًا في تحمض المحيطات، وتعريض صحة الشعاب المرجانية للخطر، ومن ثم الكائنات التي تعتمد عليها، وكذلك المجتمعات البشرية التي تعتمد اقتصاداتها على تلك الموائل المرجانية الطبيعية، وهي خسائر اقتصادية كبيرة لها تداعيات أخرى يحذّر منها العلماء، مثل التغير في أحوال الطقس، ودورات الكتل الهوائية، والتسبب في ذوبان الجليد، وارتفاع منسوب البحار، ما يهدد مدنًا ساحلية بأكملها.
ومن آثار ذلك الاحتباس الحراري الضغط والتأثير على الإنتاج الزراعي ودوراته، وقدرة المحاصيل على تحمل موجات الحرارة المفاجئة، وقد شهدنا ذلك في العام 2022، حين ضربت الهند -التي تشكل ثاني أكبر مصدر للقمح- موجة حارة عنيفة في أبريل/ نيسان، سببت خسائر هائلة تقدر بملايين الأطنان، ما دفع الحكومة الهندية إلى اتخاذ قرار وقف تصدير القمح، وقد جاء ذلك في وقت كانت الحرب فيه لا تزال قائمة بين روسيا وأوكرانيا، التي تعد المصدر الأول للقمح، والتي كانت بدورها بسبب الحرب قد أوقفت تصديره؛ بسبب الخسائر وهروب المزارعين من مناطق القتال والنزاع المسلح.
تلك أمثلة بسيطة فقط عن حجم التغيرات الهائلة التي سببها -ولا يزال يسببها- النشاط البشري المتطرف سلمًا وحربًا في بيئة كوكب الأرض، والتي بدأنا بالفعل نحصد مرارة آثارها، ونشهد بأنفسنا تلك الصدمة الإيكولوجية -أو الصدمات إن أردنا الدقة- التي لن تنتهي قريبًا بأي حال إذا لم نتحرك، لا أقول لوقف تلك الآثار، فقد فات الأوان لوقفها خاصة مع تلك النزعة الرأسمالية المتوحشة، التي لا تريد أن توقف أرباحها المتضاعفة من نزيف الكوكب، لكن نتحرك على الأقل لتخفيف آثارها، وبحث سبل التكيف معها، بأقل الخسائر على حياتنا وحياة الأجيال القادمة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.