شعار قسم مدونات

من استطاع إليه سبيلًا

نفرة الحجاج الى مزدلفة
نفرة الحجاج إلى مزدلفة (مواقع التواصل)

كنتُ قد عزمت على الحجّ عام 1425هجريًا، الموافق 2005 ميلاديًّا، على أن ترافقني أختي بصفتي محرمًا لها، وقدّمنا في إحدى الجمعيات المصرية المنظمة للحج. وبالفعل، دفعنا الرسوم التي كانت على ما أذكر في حدود 15 ألف جنيه، أي ما يعادل 2600 دولار عن كل واحد منا في ذلك الوقت، لكن بعد أن حصلنا على الموافقة، عُرضت عليَّ فرصة عمل كمدرب على أحد برامج المونتاج في السعودية من وكيل شركة سوني في مصر، أثناء زيارتي معرض أقيم في القاهرة لعرض أحدث تقنيات أجهزة البث التلفزيوني.

كنت أشعر بالحَيرة، هل أقبل عرض العمل وأضيّع فرصة الحج التي تمت الموافقة عليها لي ولأختي؟ ثم الأخطر، هل أنا آثم إن تركت فريضة الحج التي تيسرت لي في هذا العام، والله تعالى يقول في سورة آل عمران: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}؟ وهل أنا قاطع رحم إن ضيعت على أختي فرصة حج صعبة التكرار، كوني مَحرمها المتاح؟ فقد حج زوجها بالفعل من قبل، ولا يستطيع توفير نفقات الحج لهما معًا هذه المرّة.

عند طواف القدوم إلى بيت الله الحرام ورؤية الكعبة لأول مرة، انتابني شعور بالدهشة من برودة مشاعري.. كنت أتوقع دموع الخشية أو الفرح، لكنها لم تأتِ، فقد كنت منهمكًا في تأدية المناسك على أكمل وجه أجده في كتيب المناسك

خلال أسابيع قليلة من التفكير، اتضح أن أختي سترزق قريبًا بطفل بعد طول انتظار، وبالتالي لن تتمكن من الذهاب إلى الحج في هذا العام. فتواصلنا مع الجمعية واسترددنا أموالنا بعد أن ألغينا الحج، ثم حصلتُ على تأشيرة زيارةٍ للسعودية من جهة العمل في الرياض مختومٍ عليها "ممنوع عليه الحج لهذا العام"، لكوني ذاهبًا إلى الرياض قبل بداية مناسك الحج بأقل من شهر، وهذا إجراء تنظيمي معتاد لغلق أي باب خلفي لقيام البعض بالحج دون تصريح رسمي، منعًا لتكدس أعداد تفوق قدرة الدولة على تنظيم الحج ورعاية الحجيج.

إعلان

قبلت بالأمر الواقع، إلى أن أبلغني ثلاثة زملاء مصريين في العمل قبل الحج بأسبوعين بأنهم ذاهبون لأداء المناسك، وسألوني: أترغب في أن تكون رابعنا؟ فأجبتهم بأني ممنوع رسميًّا من الحج هذا العام، فقالوا إنه مجرد إجراء روتيني ولا ضرورة للالتزام به حرفيًّا على من هو متواجد بالفعل داخل السعودية، سألتهم: ولكن كيف؟ قالوا: نحجز مع حملة حج محلية.

دفعت المبلغ المطلوب وهو 4000 ريال، أي ما يعادل وقتها حوالي 6000 جنيه، شاملة التنقل ذهابًا وإيابًا والمبيت والأكل، أي قرابة ثلث التكلفة الأرخص للحج من مصر، وأخذنا تطعيمات الحجيج المطلوبة، وانطلقت بنا الحافلة من الرياض، وكان يقودها لأكثر من 10 ساعات كهل سوري مرح ذو لهجة بدوية لم أعهدها من قبل، علمتني السنون فيما بعد أنه في الغالب كان من دير الزور، قاطعين قرابة 800 كيلومتر إلى أن وصلنا إلى منطقة السيل الكبير، حيث ميقات أهل الرياض. ونزلت من الحافلة في أول استراحة بقدمين متورمتين من طول فترة الجلوس، لكن مشاعر الفرح مع نية الإحرام والتلبية ببدء مناسك الحج والعمرة قارنًا كانت لا توصف.

وعند طواف القدوم إلى بيت الله الحرام ورؤية الكعبة لأول مرة، انتابني شعور بالدهشة من برودة مشاعري.. كنت أتوقع دموع الخشية أو الفرح، لكنها لم تأتِ، فقد كنت منهمكًا في تأدية المناسك على أكمل وجه أجده في كتيب المناسك، كأنني في ماراثون رياضي أحاول ألا أخالف قواعده.

عندما حان يوم التروية في ثامن أيام شهر ذي الحجة، خرجت مع حملتي في الحافلة من مكة إلى منى، وصلينا الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، وبتنا هناك ليلة، ثم نقلتنا الحافلة من منى إلى عرفة

شاهدت العشرات ممن يتمسحون بجدران الكعبة ويتعلقون بأستارها، وهم يدعون ويبكون بحرقة، لكن كل هذا لم يؤثر في، فازددت قلقًا على حالي، حتى إنه عندما سنحت لي فرصة الوصول إلى الحجر الأسود مسحته بيدي ولم أقبِّله تجنبًا لآثار ملايين الشفايف التي قَبّلته من قبل، وتذكرت مقولة عمر بن الخطاب، الذي سميت ابني الأول على اسمه بعد أقل من سنتين: "واللَّه، إني لأقبِّلكَ، وإني أعلم أنك حجر، وأنك لا تضر ولا تنفع، ولولا أَني رأَيت رسول الله ﷺ قبَّلكَ ما قبَّلْتُك".

إعلان

طفت أول شوط أو شوطين في الصحن، ثم صعدت الدرج إلى الطابق الأخير تجنبًا لشدة الزحام، كان الزحام أقل لكن الدائرة أوسع والطواف أطول، دخلت معه في انعزال تام عن أمواج البشر المحيطة، وصفاء ذهني لم أعهده من قبل، وتأمل روحاني تحمله قدمان منهكتان تدغدغهما لذة ملامسة الرخام البارد في شهر يناير/ كانون الثاني.

ثم كان السعي سبع مرات مشيًا وهرولةً بين جبلَي الصفا والمروة، اللذين اكتسى معظمهما بالبلاط الفاخر، فلم يبقَ منهما شيء ظاهر للعيان إلا جزء يسير من قمتيهما. وجدت في هذا اغتنام الفرصة بين حين وآخر بالنظر إلى الكعبة من بعيد، لم يقطع ذلك سوى صياح عامل نظافة آسيوي يمسح البلاط قائلًا بعربية مكسورة: "طريق يا حاج"! فأتساءل: تُرى ما الذي بينه وبين الله ليحظى من بين 2 مليار مسلم بهذه الوظيفة في بيت الله؟ وهل لقب "حاج" الذي ناداني به مستحق عند الله فعلًا؟ فأروي عطش أسئلتي بكوب من ماء زمزم الموزعة حاوياته في كل زاوية وركن.

وعندما حان يوم التروية في ثامن أيام شهر ذي الحجة، خرجت مع حملتي في الحافلة من مكة إلى منى، وصلينا الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، وبتنا هناك ليلة، ثم نقلتنا الحافلة من منى إلى عرفة بعد طلوع شمس يوم عرفة، الموافق للتاسع من ذي الحجة، وبقينا على صعيد جبل عرفة إلى أن أُذن لصلاة المغرب.

في يوم النحر، كان رمي جمرة العقبة سهلًا ميسرًا، ثم ذهبنا إلى بيت الله الحرام لأداء طواف الإفاضة، والسعي بين الصفا والمروة، وهو ما تدربت عليه سابقًا في طواف القدوم

ثم نزلت بنا الحافلة من عرفة متجهة إلى مشعر مزدلفة ببطء شديد كقطر العسل، جراء زحام الحافلات المتراصة والراجلة من البشر، وبتُّ فيها مستلقيًا على سجادة متوسطة الحجم فرشها إخوة سعوديون بجوار الحافلة، ونحن جميعًا ملتحفون بالسماء، وذلك بعد أن جمعت من حصبائها 49 حصاة، منها 7 حصيات لجمرة العقبة يوم النحر، و21 للجمرات الثلاث في ثاني أيام العيد، ومثلها في ثالث أيام العيد.

وأثناء تجاذُبنا أطراف الحديث صاح شاب سعودي مناديًا: من ذا الذي أطلق على بولتوث جواله "أوكيه بالباب"؟ لم أفهم قصده، ثم انتبهت وقلت له: ربما تقصد Okbelbab؟ قال:نعم، قلت له: إنه أنا، هذا لقب عائلتي "عقب الباب" وليس "أوكيه بالباب"، فانفجر كلانا في الضحك.

إعلان

في يوم النحر، كان رمي جمرة العقبة سهلًا ميسرًا، ثم ذهبنا إلى بيت الله الحرام لأداء طواف الإفاضة، والسعي بين الصفا والمروة، وهو ما تدربت عليه سابقًا في طواف القدوم. لكن في اليوم التالي، أي في أول أيام التشريق، الموافق للحادي عشر من ذي الحجة، عندما ذهبت مع زملاء عملي المصريين الثلاثة لرمي الجمرات الثلاث، الكبرى والوسطى والصغرى، كانت الحشود في منى أضخم مما نتوقع، وأفلتت أيدينا فافترقنا بعضنا عن بعض، وذهب كل منا في طريقه مع تيار البشر الجارف، ولم أعد أرى أحدًا منهم.

كنت مضغوطًا بين الحشود التي لا فاصل فيها بيني وبين من هو أمامي أو خلفي، بدأ الرعب ينتابني، فلم أعد أستطيع التقدم أو التأخر أو الخروج، فقدماي بت لا أراهما، فقط أشعر أنهما تلامسان الأرض، وأحيانًا تخطوان على أشياء لا أعرف كنهها، ربما حقيبة ظهر أو سجادة مطوية، تركها اضطرارًا بعض من أقدموا على الحج من فقراء المسلمين دون قدرة على توفير مأوى.

سألني من في الخيمة: هل رميت الجمرات؟ قلت له: وهل شكلي يوحي بذلك؟ ضحك الجميع وأنا أقول إنني لن أؤدي هذه الشعيرة، وسأُنيب عني من يقوم بها، أو أقدم ذبيحة

وفجأة، سقط أمامي ما لا يقل عن عشرة أشخاص من كبار السن من المسلمين الهنود، فحاولت جاهدًا أن لا أسقط معهم أو أمشي فوقهم.. هنا بدأ البعض يقفز فوقهم مثل أنعام هائجة فرت من قسورة، وأنا في حالة من الرعب أكاد أجزم معه أن ساعتي قد حانت.

وسط هذا الكم من المسلمين العجم تذكرت -كعربي- أني بالأربعمائة مليون من بني جلدتي -بمسلميهم وغير المسلمين فيهم- أنتمي فعليًّا لأقلية صغيرة جدًا في أمة المليارين من المسلمين، فطفقت أبحث عن لغة تواصل معهم تحد من هذا الهرج، فلم أجد سوى أن أصيح بأعلى صوتي بمفردة "السكينة" القرآنية، التي -للأسف- لم يلتقطها مني أحد وسط هذا الهرج الصاخب.

قررت أن أغادر المكان فورًا دون أداء هذه الشعيرة، لكن أنّى لي الخروج من هذا الطوفان البشري؟ ثم وجدتني بالقرب من ظهر جندي سعودي يمنع هو وصفُّ طويل من زملائه دخول المزيد من الحجاج، فربت على كتفه مشيرًا إليه بأني أريد الخروج، فسمح لي، وعدت إلى خيمتي في منى انتعل حذاءً واحدًا بعد أن خُلع الآخر من قدمي، ولم أجرؤ وسط هذا الزحام على أن أنحني لألتقطه.

في آخر يوم أتممت طواف الوداع برأس حليقة ملساء بعد التحلل، ثم أخذت الحافلة من مكة إلى الرياض مباشرة، ولم تكتمل فرحتي بزيارة المسجد النبوي بسبب الأمطار الشديدة، وهو ما قمت به بعد ذلك بعدة سنوات

سألني من في الخيمة: هل رميت الجمرات؟ قلت له: وهل شكلي يوحي بذلك؟ ضحك الجميع وأنا أقول إنني لن أؤدي هذه الشعيرة، وسأُنيب عني من يقوم بها، أو أقدم ذبيحة.. هنا انبرى أحدهم قائلًا: تُنيب عنك أو تقدم ذبيحة؟ أنت امرأة أو رجل مسن؟ كم عمرك؟ أجبته: 35، فضحك أكثر، ثم قال: هل تخشى الموت في مكان كهذا؟ يا لها من ميتة يتمناها أي مسلم!

إعلان

تأثرت بكلامه واستجمعت قواي، وذهبت هذه المرة مع شاب فلسطيني، لكن عندما اقتربنا من الحشود تذكرت لحظات الرعب، وعدت مجددًا إلى الخيمة، وبدأ حفل التحفيز الساخر مرة أخرى. ثم في المحاولة الثالثة انطلقت مع ثلاثة شبان سعوديين ومصري عجوز من النوبة، وكان الزحام قد خف، فرميت الجمرات الثلاث بسرعة البرق، ثم عدت أدراجي مسرعًا.

في آخر يوم أتممت طواف الوداع برأس حليقة ملساء بعد التحلل، ثم أخذت الحافلة من مكة إلى الرياض مباشرة، ولم تكتمل فرحتي بزيارة المسجد النبوي بسبب الأمطار الشديدة، وهو ما قمت به بعد ذلك بعدة سنوات، منطلقًا من الدوحة في دورة تدريب بالتعاون مع مؤسسة إعلامية بريطانية قدمتها في تلفزيون الرياض، وانتهزت إجازة نهاية الأسبوع لآخذ الطائرة إلى مدينة رسول الله ﷺ، وأقف هناك عند قبره الشريف مُسَلّمًا عليه وعلى صاحبيه.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان