كل شعيرة من شعائر الحجّ تحكي قصة الإنسان مع الله، مع ذاته، مع ضعفه وقوته.. ومن لم يحج يكفيه أن يتأمل، أن يشارك بالدعاء، أن يشتاق؛ فإن الشوق في حد ذاته عبادة!
من زار البيت الحرام في العمرة يدرك أكثر من غيره مدى تأثير هذا الموقف أمام بيت الله الحرام؛ ومن وقف على عرفات يدرك أكثر ممن زار البيت عِظم هذه المشاعر.. حالة غريبة ومختلطة من الأحاسيس، لكن التهيُّؤ لها مقدمة غير مفهومة، يعرف معناها الحاج أو المعتمر حين يحين الوقت للدخول على ملك الملوك.
مناسك وضعت بدقة لتهيئ الحاج لما هو مقدم عليه، وبروتوكولات سبقت تلك التي تراكمت عبر القرون لتوضع في كتيبات تدرس قبل الدخول على الملوك والرؤساء! فالإحرام هو لحظة الاستعداد للدخول على الملك سبحانه، بالاستعداد ماديًا ونفسيًا ومعنويًا للقاء؛ ففي الإحرام -بما يشمله من غسل وتطيب وخلع للباس الدنيا وارتداء لباس الآخرة- رسالة للحاج أن اخلع ذاتك قبل سلطانك وجاهك، وتجرد لما أنت مقدم عليه، واغتسل من كل ما أصابك من أدران، وتهيأ.. وبخلع لباس الدنيا والاكتساء بالبياض معنى آخر بوجوب النقاء ونزع الطبقية، لأن الكل أمام الملك سواء.
وفي تلك الأيام المعدودات، حين تتدفق الأرواح إلى البيت العتيق، ثم ترتقي إلى صعيد عرفات، تتنزل السكينة على قلوب الحجاج بنزول ربنا، وتضج الأرض بنداءات التلبية، وتذوب القلوب شوقًا، وتتطلع إلى رضا الملك، وتطمع في أن يتقبل توبتها، أو يجبر كسرها، أو أن يستجيب لحاجتها.
للعيد في الغربة مذاق مختلف؛ فيه شجن البعد، وحنين القرب، ودمعة تتأرجح على حافة القلب، بين شوق للوطن ورغبة في مشاركة الحجيج هذا الشرف الذي نالوه بلقاء الملك، والنهل من فيض عطائه
الكل يدعو رافعًا الأكف بلهفة من ضاع طويلًا ثم وجد الطريق، الجميع يرفعون أكفهم وكأنهم كادوا أن يلمسوا السماء يتلقون العطاء من كريم جواد، وهو -سبحانه- يمد إليهم يديه بالعطاء، لا يخذلهم، وهم في ذلك واثقون بوعد ربهم، لأنه -سبحانه- وعد أن يعطي كل واحد مسألته، رغم اختلاف ألسنتهم وألوانهم ومطالبهم وغاياتهم، وفي هذا الاختلاف دلالة أخرى.
من لم يحظَ بهذا الشرف -شرف الحج والصلة، شرف المشهد واللقاء- أكرمه الله بعطاء الكريم الذي لا يمنع، والملك الذي إن أعطى أغنى، العدل الذي إذا ما قسم عدل، فجعل له من الخير والعطاء ما يكافئ نصيب من حظي وظفر؛ فشرع لهؤلاء من العبادات والنسك ما يكون سببًا لينالوا رضاه، وبه يحظون بعفوه، ويجيب لهم حاجاتهم.
لكنَّ للعيد في الغربة مذاقًا مختلفًا؛ فيه شجن البعد، وحنين القرب، ودمعة تتأرجح على حافة القلب، بين شوق للوطن ورغبة في مشاركة الحجيج هذا الشرف الذي نالوه بلقاء الملك، والنهل من فيض عطائه. ففي الغربة تبحث لعيدك عن عيد، فتضم روحك وتحمل نفسك وتقطع المسافات، لتجد لنفسك في هذا اليوم العظيم لمحة مما يعيشه الحجاج على أطهر بقاع الأرض.
ومثلي المئات ممن يبحثون لأنفسهم عن هذه اللمحة، مشاعر الأخوة والتوحد بالجماعة، حتى ولو اختلفت الألوان واللهجات، أو حتى اللغات؛ فالكل في هذه الغربة يبحث عن الفرحة في يوم أمرنا الله أن نفرح فيه، حتى ولو كان الحال لا يسمح بذلك، فالفرحة في العيد عند المسلمين عبادة، لذا تجد الأفريقي يبتسم للآسيوي، والطفل العربي يركض خلف شيخ بلقاني ليعايده، وأناسًا بملامح أوروبية يتبادلون التهاني بلغة عربية مكسّرة، لكنها صادقة حتى الصفاء.
رغم اختلاف اللغات واللهجات، فإن التكبيرات تذيبها جميعًا، وترفع الحواجز، وتداوي الغربة، لتجعل من كل واحد خيطًا في لحمة هذه الأمة، وكل مجموعة إنما هي موجة في بحر هذه الحضارة
مئات المغتربين من كل فج وصوب جاؤوا ليصلوا صلاةً واحدة، ألوان بشرتهم تتدرج من الثلج إلى الليل، وأزياؤهم تحكي قصص بلادهم.. جلابيب سودانية، وقمصان باكستانية، ودشداشة خليجية، وجلباب مع جنبية يمنية، وغيرها من الأزياء التي لم يُقصد بها التمايز بقدر ما قُصد بها الحنين.
ورغم اختلاف اللغات واللهجات، فإن التكبيرات تذيبها جميعًا، وترفع الحواجز، وتداوي الغربة، لتجعل من كل واحد خيطًا في لحمة هذه الأمة، وكل مجموعة إنما هي موجة في بحر هذه الحضارة؛ فرغم الاختلاف تذوب الفوارق، وحتى إن تعددت الألوان فإن العيد بين المسلمين واحد، كما أمر الواحد -سبحانه- وكما يحب ويباهي.
في الوطن، للعيد زينة وعادة.. أما في الغربة، فالعيد له جوهر! في الوطن نبحث عن الفرحة في التفاصيل، لكننا في الغربة نجد للعيد معاني وقيمًا غفلنا عنها مع ألفة الأهل والأحباب.. العيد في الغربة ليس لباسًا جديدًا، أو مائدة عامرة، بل لقاء الأرواح، والتفاف القلوب، وامتداد الجذور في أي أرض تجمع المسلمين.
العيد، كما هو شعائر، هو مشاعر لا تُشترى، هو دفء أمة كُتب لأبنائها أن يسعى بذمتهم أدناهم.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.