يُعتبر الإنسان أسيرًا لسياقه الكلّي المرتبط بالظروف التاريخية والسياسية، وهذه ليست ظواهر لحظية طارئة ظهرت في لحظات محددة، بل هي حالة طبيعية نابعة من طبيعة الإنسان التفاعلية. ولعل مقولة أرسطو عن الإنسان بوصفه "كائنًا اجتماعيًّا" تصدق هنا إذا فهمناها بمعنى "كائن متفاعل" مع محيطه وظروفه.
ومن الطبيعي أن نتفهّم حال الناس العاديين الذين يتأثرون ببيئاتهم وظروفهم السياسية القاهرة، لا سيما في ظل الاستبداد والظلم، إذ إن معظمهم لا يمتلك الوعي السياسي والتاريخي الكافي الذي يمكّنهم من مقاومة هذه الظروف، فيغدو كثيرون منهم أسرى لها، وقد يضطر بعضهم إلى التخلي عن ثوابته، ودينه، وآرائه، بل حتى عن منظومته الأخلاقية.
لكن، لا يمكن أن نحكم بذلك المعيار على المثقفين، فالمثقف يختلف بطبيعته ودوره؛ إذ يمتلك القدرة على التمييز، وقراءة الأحداث، وربطها بالتاريخ، واستخلاص النتائج سواء الحاضرة أو المستقبلية.
فالتاريخ، كما يرى كارل ماركس، يعيد نفسه مرتين: الأولى على شكل مأساة، والثانية على شكل مهزلة، في إشارة إلى أن التكرار ينبع من الجهل بالأسباب.
من هنا، فإن للمثقف مسؤولية ضخمة ومتعددة الأبعاد، ولا يُعفى منها مهما كانت الظروف، والتخلي عن هذه المسؤولية يُعدّ خيانة للقضية وللمجتمع الذي ينتمي إليه، بل خيانة لدوره الجوهري بوصفه ضميرًا يقظًا للأمة.
صمت المثقف، وحياده، بل وانحيازه في أحيان كثيرة للنخب السياسية العربية، أو تبنّيه خطاب الغرب، أو إعادة إنتاج خطابات السلطة، ساهمت كلها في انهيار فادح في الميزان الأخلاقي والإنساني والتاريخي
في المنعطفات الحاسمة من التاريخ، لا يُختبر الساسة وحدهم، بل يُوضع المثقفون أيضًا في ميزان الوعي والموقف.. وتاريخ الشعوب يثبت أن النخب الثقافية إما أن تكون صانعة للوعي الجمعي المقاوم، أو شاهدة زور تمهر خطاب السلطة بختم "الشرعية الثقافية".
وفي ظل الكوارث المتلاحقة التي تمر بها الأمة -وعلى رأسها المأساة الفلسطينية المستمرة- يظهر تهافت المثقف العربي بكل وضوح، حين يلوذ بالصمت، أو ينحاز للجلاد، أو ينشغل بقضايا نظرية لا تمسّ وجع الإنسان في شيء.
بينما أكتب هذه الكلمات، هناك أطفال ونساء يُقتلون في غزة على يد آلة القتل الإسرائيلية، التي لم تتوقف منذ بدايات القرن الماضي، بل ازدادت شراسة بعد قيام الكيان الصهيوني عام 1948. وكل هذه الجرائم تُرتكب تحت رعاية أميركية وغربية، وبمباركة صمت عربي مخزٍ لا يبرَّر ولا يُغتفر.
لكن هذه ليست الأسباب الوحيدة لما يجري؛ فصمت المثقف، وحياده، بل وانحيازه في أحيان كثيرة للنخب السياسية العربية، أو تبنّيه خطاب الغرب، أو إعادة إنتاج خطابات السلطة، ساهمت كلها في انهيار فادح في الميزان الأخلاقي والإنساني والتاريخي.. وكأن هذا المثقف قد نسي، أو تناسى، أن لمحكمة التاريخ ذاكرة لا ترحم، وأنه في يوم ما، حين يسقط الغبار عن المراحل، لن يكون هناك الساسة الذين رعوا هؤلاء المثقفين، ولن تكون هناك سلطة تحميهم، بل سيكون الجميع ترابًا.. وعندها، في المحكمة الربّانية التي لا يُظلم فيها أحد، وفي المحكمة الإنسانية التاريخية التي لا تجامل، ستكون الكلمة الأخيرة للتاريخ، وسيُسأل القلم عن صمته، والصوت عن خيانته للأمانة، وعن ثمنٍ بخس باع به قضيته وأمته.
في مقابل هذا الصمت، لا تزال الشعوب الغربية -رغم كل التحديات- تخرج في مظاهرات داعمة لغزة، رغم ما يتعرض له الناشطون والمتظاهرون هناك من طردوا من أعمالهم، وتضييق أمني وملاحقة سياسية.
وقد رأينا في العقود الماضية أمثلة عظيمة لمفكرين غربيين مثل روجيه غارودي، الذي تجرأ على نقد الرواية الصهيونية، ودفع ثمن ذلك باهظًا.
وهنا تحديدًا، تبرز مسؤولية النخب الثقافية العربية في قراءة هذا المشهد، وفهم أسباب هذا السكوت الجماهيري العربي المخيف، والبحث في جذوره: أهو ناتج عن القمع؟ عن فقدان الأمل؟ أم عن هيمنة خطاب الاستسلام واللامبالاة؟
لقد حان الوقت أن تتحرك هذه النخب، لا أن تلوذ بالصمت أو تنشغل بقضايا هامشية في زمن المجازر الكبرى.. ولكنها -للأسف- انصرفت لتفكيك الخطاب الذي تحمله جماعات سياسية مثل الإخوان وكل الجماعات التي تتبع للإسلام السياسي.
وهذه الـ"نخب" في موقفها تشبه القساوسة الذين كانوا يتناقشون في طبيعة الملائكة أثناء دك حصونهم من قبل محمد الفاتح أثناء حصار القسطنطينية.
إن دور المثقف في هذا السياق ليس دورًا ثقافيًّا تقليديًّا، ولا يقتصر على المحاضرات أو الكتابات الفكرية والاحتفالية، بل هو دور نابع من ضمير الأمة، ومن أمانة المعرفة التي يحملها. فكم من مثقف تحوّل في لحظة وعي إلى منارة لشعبه، محذرًا من المخاطر المحدقة بالأمة من كل صوب!
المعركة في فلسطين ليست صراعًا بين "فصيل عقائدي" وإسرائيل، كما تحاول الأخيرة تسويق ذلك للعالم.. هذا التصوّر المُضلّل قد تبنّته بعض النخب الثقافية العربية، بما يكشف حجم الانحراف في رؤيتها
إسرائيل لم تكن -ولن تكون- إلا عدوًّا لشعوب المنطقة، ولا يمكن للمنطقة أن تنعم بالسلام والاستقرار ما دام هذا الكيان قائمًا في قلب الشرق الأوسط.
وهنا يأتي دور المثقف الحقيقي في فضح خطورة هذا الكيان، وتبيان استحالة تحقيق "سلام" حقيقي معه؛ فالمعركة معه معركة وجود، لا تفاوض ولا تسويات، إنها معركة صفرية: إما نحن، وإما هو.
وفي هذا الوقت العصيب، يصبح الانشغال بموضوعات جدلية مرتبطة بالسلطة أو مسائل سياسية ترفًا فكريًّا لا يليق بسياق المجازر والدمار.. هل يجوز الخوض في هذا النقاش في وقت نعيش فيه ولادة نظام إقليمي جديد، ونظام دولي كذلك؟ فهذه التحولات الكبرى لن تؤثر على حركات الإسلام السياسي فحسب، بل ستطول الأنظمة السياسية نفسها في جوهر بنيتها ووظائفها.
المعركة في فلسطين ليست صراعًا بين "فصيل إخواني" وإسرائيل، كما تحاول الأخيرة تسويق ذلك للعالم.. هذا التصوّر المُضلّل قد تبنّته بعض النخب الثقافية العربية، بما يكشف حجم الانحراف في رؤيتها، ومدى التشوه الذي أصاب الخطاب الثقافي العام.
والقضية ليست مجرّد "7 أكتوبر"، ولا قضية أسرى؛ بل هي صراع على مشروع وجودي خطير، تسعى من خلاله إسرائيل إلى تحقيق ما يُعرف بـ"إسرائيل الكبرى"، وقد تحققت بالفعل، لا بالمعنى الجغرافي أو الديمغرافي، بل من خلال التمدد في النفوذ والسيطرة.
المحكمة التاريخية لن ترحم أحدًا، وستدين كل من خان قلمه، وخان أمته، وباع قضاياه مقابل فتاتٍ من سلطة أو جاه
ماذا جلبت اتفاقية السلام لمصر؟ إنها تعاني أزمات اقتصادية وجيوسياسية، ومحاطة بالنيران.. ولم تكن الدبلوماسية في سوريا مع النظام الوحشي أكثر نفعًا، بل إن الفعل الثوري وحده هو ما هزّ النظام القمعي هناك، لا المهادنة ولا الصفقات. الأمر ذاته ينطبق على إسرائيل، فهي دولة عدائية لا ترى في العرب إلا كائنات دونية، كما وصفهم وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت عندما شبههم بـ"الحيوانات البشرية".
فمتى يستفيق ضمير المثقف من سباته السلطوي؟ متى يعود إلى رشده ويتوقف عن خيانة ضميره وفكره وثقافته؟ حتى النخب السياسية التي يدافع عن سياساتها ليست في مأمن من الخطر الإسرائيلي، كما تظن، بل هي في صلب الاستهداف، وإن لم تدرك ذلك بعد.
المحكمة التاريخية لن ترحم أحدًا، وستدين كل من خان قلمه، وخان أمته، وباع قضاياه مقابل فتاتٍ من سلطة أو جاه.. فليعد المثقف إلى بيئته، وإلى مصالح شعبه الإستراتيجية، بعيدًا عن رؤية السلطة والنخب الحاكمة التي رهنت مصير الأمة لأعدائها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.