شعار قسم مدونات

الذكاء حينما يهزم العقوبات: حكاية صينية من الداخل

مقاطعة شينجيانغ - الصين: صناعة السيارات في الصين عانت من فائض في الانتاج وتكدس المخزون عام 2012. تصوير أحمد الجنابي
في عام 2023 باعت الصين أكثر من 8 ملايين سيارة كهربائية (الجزيرة)

حين قرّرتُ زيارة الصين مجدّدًا بعد سنوات طويلة من الغياب، لم يكن الدافع مجرّد حنين إلى مدينة عشت فيها أكثر من 15 عامًا، بل كانت رغبة في اختبار تحوّلات هذا البلد بعينيّ.

غوانزو، العاصمة التِجارية للصّين، لم تكن بالنسبة لي مدينةً عادية، بل هي المكان الذي تعلّمت فيه أصول التجارة العالمية، وخبرت أسواقه وأزماته، وسقطت فيه وقمت مرات، دون أن أفقد الرغبة في البقاء. هناك، شعرتُ دائمًا أن العالم يتغيّر أمامي، يتشكّل، ويُصنع، ويُعاد تدويره بسرعة تفوق الخيال.

الصينيون لا يقفون كثيرًا عند التحولات، يتأقلمون معها بسرعة مذهلة! خلال جائحة كورونا، التي كبّلت البلد لثلاث سنوات، لم ينتظروا المعجزة من الخارج، بل نقلوا تجارتهم إلى الإنترنت، أسسوا عشرات المنصات، واعتمدوا على التسويق والتفاوض والبيع عن بُعد

ولأنني تركتُها قبل سنوات في ذروة ازدهارها، ظننتُ -لوهلة- أنني سأعود إلى الصورة نفسها، لكن بمجرد أن وطِئت قدماي المطار بدأت ألاحظ أن شيئًا ما تبدّل! غوانزو التي كانت تضجّ بالبشر، بالحركة، بالألوان، أصبحت أكثر هدوءًا، كأنها أبطأت إيقاعها، لا لتتراجع، بل لتغيّر شكل حركتها.

الأسواق التي كنت أتنقل بينها يوميًّا، بحثًا عن صفقة أو فرصة، بدت خالية أو شبه مهجورة.. متاجر اختفت، علامات تجارية أُغلقت، وزبائن قلائل يذرعون الممرات. بدا المشهد للوهلة الأولى كأنه لمدينة فقدت نبضها، لكن سرعان ما أدركت أن المدينة لم تتوقف، بل انتقلت إلى مكان آخر: إلى العالم الرقْمي.

إعلان

الصينيون لا يقفون كثيرًا عند التحولات، يتأقلمون معها بسرعة مذهلة! خلال جائحة كورونا، التي كبّلت البلد لثلاث سنوات، لم ينتظروا المعجزة من الخارج، بل نقلوا تجارتهم إلى الإنترنت، أسسوا عشرات المنصات، واعتمدوا على التسويق والتفاوض والبيع عن بُعد.

واليوم، تجد المنتجات نفسها تُعرض بأسعار أقل بنسبة 20 إلى 30% مقارنةً بالأسواق التقليدية، لأن التكاليف انخفضت، والوسيط اختفى.. غرف الجلوس أصبحت معارض، والهواتف صارت أدوات بيع.

في عام 2023 باعت الصين أكثر من 8 ملايين سيارة كهربائية، أي ما يفوق 60% من السوق العالمية، متقدمة على أوروبا والولايات المتحدة مجتمعتين

في عام 2024 وحده، بلغت قيمة مبيعات التجزئة الإلكترونية في الصين حوالي 14 تريليون يوان (نحو 1.92 تريليون دولار)، في نمو مستمر يعكس ثقة المستهلكين بالاقتصاد الرقمي، ونجاح بكين في توجيه بنيتها التحتية نحو المستقبل، لا الماضي.

لكن هذه المرونة لم تقتصر على الاقتصاد وحده.. العقوبات الغربية – وخصوصًا الأميركية- التي طالت قطاعات إستراتيجيّة مثل الهواتف الذكية، والسيارات الكهربائية، وأشباه الموصلات، لم تُضعف هذا البلد كما أرادت واشنطن. على العكس، منحت الصين دافعًا إضافيًّا للابتكار على قاعدة "الحاجة أم الاختراع".

تحت الضغط، أطلقت "هواوي" هاتفًا جديدًا يعمل بشريحة معالجة طُورت محليًّا، متحدّية حظر التكنولوجيا الغربية. وفي سوق السيارات الكهربائية، باتت الصين في موقع الريادة بلا منازع؛ ففي عام 2023 باعت أكثر من 8 ملايين سيارة كهربائية، أي ما يفوق 60% من السوق العالمية، متقدمة على أوروبا والولايات المتحدة مجتمعتين.

شركات مثل "BYD" و"Nio" لم تعد مجرد منافسة لـ"تسلا"، بل باتت تسبقها في بعض الابتكارات.

حتى في ميدان صناعة الرقائق، حيث حاولت أميركا تقييد وصول بكين إلى معدات الطباعة الفوقية (EUV)، فاجأت الصين العالم في 2024 حين أنتجت شريحة 7 "نانومتر" عبر شركتها الوطنية "SMIC"، ما يشير إلى أن الجدار التكنولوجي الغربي لم يعد حصينًا كما كان يُظن.

غوانزو اختُصرت لي كرمز لما تفعله الصين اليوم: تكتب قصة التقدّم بلغة جديدة.. لا تُشبه أحدًا، لكنها تفرض نفسها على الجميع

وفي قلب كل هذه الثورة، كانت الحياة اليومية تتغيّر أيضًا.. لا أحد يستخدم النقود الورقية، كل شيء يُدفع من الهاتف: التاكسي، والطعام، والملابس، وحتى الخدمات الحكومية.. سائقو سيارات الأجرة رفضوا أحيانًا تقاضي النقود مني، لأن الدفع النقدي أصبح غريبًا عنهم! بدا كأن الزمن تجاوزنا.

إعلان

ورغم هذا التقدم المذهل، لم تَغِب عن الناس في غوانزو نبرة الحذر.. "لن يتركونا نكمل بسهولة"، قال لي أحد رجال الأعمال المحليين.. كان يقصد الغرب، وخصوصًا الولايات المتحدة. لكن نبرة صوته لم تكن خوفًا، بل تحديًا! هناك يقين راسخ بأنّ الصين لا تقف عند الهجمات، بل تردّ عليها بابتكار مضاد.

حين غادرت المدينة بعد أيام، شعرت كما شعرت أوّل مرّة دخلتها: أنني أغادر مختبرًا حيًّا للمستقبل.. الوباء لم يهزمها، والعقوبات لم تُرهبها، بل كل ذلك جعلها أكثر تصميمًا، وأكثر دقة، وأكثر جرأة على تغيير ما كان يُعتقد أنه لا يتغيّر.

غوانزو اختُصرت لي كرمز لما تفعله الصين اليوم: تكتب قصة التقدّم بلغة جديدة.. لا تُشبه أحدًا، لكنها تفرض نفسها على الجميع.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان