شعار قسم مدونات

قُصف الخبز في غزة فماتت الإنسانية في العالم

ارتفاع عدد شهداء المج.ـزرة التي ارتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي قرب مركز توزيع المساعدات في مدينة رفح جنوب قطاع غزة إلى 30 شهـ.يداً.
عدد من شهداء المجزرة التي ارتكبها جيش الاحتلال قرب مركز توزيع المساعدات في مدينة رفح جنوب غزة (مواقع التواصل)

في أروقة التاريخ الحديث، حيث تُسجَّل الفظائع بأحرف من دم ودموع؛ تقف غزة اليوم شاهدة على فصل جديد من فصول العار الإنساني.

إن العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة ليس حربًا تقليدية، كتلك القائمة بين روسيا وأكرانيا، وليس نزاعًا سياسيًا عاديًا، إنما هو الاحتلال الأطول في التاريخ الحديث، وهو إبادة ممنهجة تُنفَّذ بتُؤدة ودموية، تحت سمع العالم وبصره، بينما الضمير العالمي يغضّ الطرف ويشيح بوجهه.

نسبة الأسر التي تعاني من انعدام الأمن الغذائي تجاوزت 96% من سكان غزة، مع وجود قرابة 495 ألف شخص في حالة انعدام أمن غذائي كارثي، حسب دراسة حديثة نشرتها اليونيسيف في مارس/ آذار 2025، وتقارير أممية ودولية مشتركة

الجوع كسلاح والمجازر كأداة إبادة مزدوجة

لم يعد القصف وحده هو القاتل الأكبر في غزة، بل صار الجوع والمجازر المتعمّدة أدوات متكاملة للقتل البطيء والسريع، فمنذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023، تحوَّل الحصار إلى آلة للطحن البطيء، بينما حوّلت مجازر -مثل مجزرة رفح قبل أيام- مراكزَ المساعدات إلى "مصائد موت" تُدار بأيدي قوات الاحتلال وشركائها.

إحصائيات صادمة صدرت خلال الأشهر الماضية من 2025، تؤكّد أن أكثر من 66 ألف طفل فلسطيني يعانون من سوء تغذية حاد، وفق بيانات وزارة الصحة في غزّة، ومنظمة الصحة العالمية. وفي ذات الفترة، أفادت تقارير طبية أن أكثر من 50 طفلًا فلسطينيًا توفوا نتيجة الجوع أو مضاعفاته في المستشفيات الحكومية خلال أقل من 4 أشهر.

كما أن نسبة الأسر التي تعاني من انعدام الأمن الغذائي تجاوزت 96% من سكان غزة، مع وجود قرابة 495 ألف شخص في حالة انعدام أمن غذائي كارثي، حسب دراسة حديثة نشرتها اليونيسيف في مارس/ آذار 2025، وتقارير أممية ودولية مشتركة.

إعلان

تتزامن هذه الأرقام مع تدمير ما لا يقل عن 94% من المرافق الصحية الحيوية في القطاع، وفقًا لتقارير منظمة الصحة العالمية حتى أواخر مايو/ أيار 2025. وقد وثّقت المنظمة 516 هجومًا على المرافق الصحية ووسائل النقل الطبي، ما أسفر عن ارتقاء 765 شخصًا، وإصابة ما يقرب من 1000 آخرين.

هذا التصعيد الممنهج في استهداف البنية التحتية الصحية يعكس الوحشية الإسرائيلية وتفاقم الأزمة الإنسانية؛ ويحول دون تلقي المرضى والمصابين الرعاية اللازمة، ما يزيد من عدد الوفيات بين المدنيين، وخاصة الأطفال والنساء.

وآخر المجازر البشعة، التي تجاوزت الوصف، كانت في مايو/ أيار وفي يونيو/ حزيران 2025، حين ارتكب الجيش الإسرائيلي سلسلة مجازر في رفح، حيث استُهدف المدنيون الجوعى وهم ينتظرون المساعدات الإغاثية (في 31 مايو/ أيار 2025: 37 شهيدًا و170 جريحًا برصاصٍ أُطلق على طوابير الخبز. وفي 3 يونيو/ حزيران 2025: 27 شهيدًا ونحو 500 جريح في المشهد ذاته).. وتحدث هذه الاستهدافات، بينما العالم يصفها بـ "الحوادث المأساوية" ولا يتجاوز ذلك الوصف.

هنا، يُختزل التاريخ في حلقة مفرغة: ففي سنة 1956، ذبح الجيش الإسرائيلي 111 فلسطينيًا في رفح بعد استدراجهم إلى مدرسة تحت ذريعة "التفتيش"، والأمثلة الأخرى أكثر من أن تحصرها مقالة. اليوم، يعيد التاريخ نفسه، لكن بأساليب أكثر إجرامًا: مساعدات أميركية مغموسة بالدماء، حيث يُستدرج المجوّعين إلى نقاط محددة ليتم إعدامهم جماعيًا.

الهجوم لا يقتصر فقط على السلاح التقليدي، بل يشمل استدراج المجوَّعين إلى مراكز إغاثية تم إعدادها بشكل ممنهج لتكون كمينًا دمويًا للعزّل

المفارقة التاريخية.. عندما يصبح الصمت أداة للقتل

في رواندا والبوسنة، انقسم العالم بين مُندِّدٍ ومتواطئ.. أمّا في غزّة، فالجميع يشارك في جريمة واحدة: الصمت! المفارقة الأكثر إيلامًا أن إسرائيل، بعد 70 عامًا من استخدام ذريعة "عداء السامية" و"الدفاع عن النفس" المصنَّعة غربيًا، تنفّذ إبادة جماعية، بينما الذخائر الأميركية التي قُتِل بها أجداد الإسرائيليين نفسُها تُستخدم لحرق أطفال فلسطين.

إعلان

الأمم المتحدة تصف الوضع بأنه "أسوأ أزمة إنسانية"، لكن قراراتها تتحوَّل إلى حبر على ورق. حتى محكمة العدل الدولية، التي أمرت بوقف الهجوم على رفح، وأصدرت مذكرات اعتقال بحق "نتنياهو" و"غالانت"، تُنتهك أوامرها علنًا. والنتيجة؟ غزّة 2025 تُكرر مأساة سنة 1948: تهجير جماعي، ومجاعة مخطَّط لها، ومجازر تُرتكب بذات الأسلوب ولكن بأدوات "حديثة".

دليل آخر على ذلك هو القصف الإسرائيلي الذي تعمّد استهداف الفلسطينيين وهم يحاولون الحصول على المساعدات الإنسانية؛ حيث راح ضحيته قرابة 40 شخصًا إضافة إلى إصابة حوالي 200 آخرين، في غارات استهدفت نقاط تجمع للمساعدات خلال الأسابيع القليلة الماضية، ما يؤكّد أن هذا الهجوم لا يقتصر فقط على السلاح التقليدي، بل يشمل استدراج المجوعين إلى مراكز إغاثية تم إعدادها بشكل ممنهج لتكون كمينًا دمويًا للعزّل.

القانون الدولي، الذي وقف عاجزًا أمام مجازر "سربرنيتسا"، يُظهر عجزه الأكبر اليوم: ففي 2025، تُنتهك اتفاقية منع الإبادة الجماعية (1948) علنًا، بينما واشنطن تُزوِّد الجلّاد بالأسلحة الفتّاكة

إبادة لا تشبه سابقاتها

التاريخ يعرف الإبادات الجماعية، لكن غزة كسرت القوالب: إبادة مصوَّرة بالبث المباشر، بينما تُختزل الضحايا في "أرقام مؤقّتة".

وفي سياق التعتيم المُتعمّد، ارتقى حتى يونيو/ حزيران 2025 ما لا يقل عن 212 صحفيًا، حسب تقرير قناة الجزيرة، فيما يمكن تسميته بـ "الإبادة الإعلامية"، التي تهدف إلى إسكات العدسة والكلمة، ومنع توثيق الجريمة في زمن البث المباشر.

تكتيك مُزدوج: تجويع بطيء يسبق المجازر السريعة، كما في رفح حيث يُجبر المجوَّعون على التجمُّع ثم يُقتلون. يتبع ذلك تواطؤ مُركّب: الذخائر الأميركية تُستخدم لتنفيذ المجازر، بينما الإعلام الأميركي يصفها بـ "الأخطاء المأساوية".

كما كشفت تقارير أممية أن جيش الاحتلال استخدم الذكاء الاصطناعي، لتحديد الأهداف البشرية والمنازل والمركبات في وقت لا يتجاوز الثواني، ما يجعل من الخطأ احتمالًا محسوبًا ضمن هامش الإبادة، ويحوّل الذكاء الاصطناعي من أداة تطوير إلى أداة فتك.

إعلان

حتى القانون الدولي، الذي وقف عاجزًا أمام مجازر "سربرنيتسا"، يُظهر عجزه الأكبر اليوم: ففي 2025، تُنتهك اتفاقية منع الإبادة الجماعية (1948) علنًا، بينما واشنطن تُزوِّد الجلّاد بالأسلحة الفتّاكة.

ما يزيد الألم عمقًا هو أن إسرائيل تعتمد على شركات أميركية لإدارة توزيع المساعدات الإغاثية في القطاع، ما يجعل هذه المؤسسات شركاء في الجريمة.

فقد أصبحت المساعدات، التي كان يفترض أن تخفّف من معاناة الغزيين، أداة لاستدراج المجوعين، حيث يتم استغلال حاجتهم الماسّة إلى الغذاء والإغاثة، ثم تُقصف مراكز التجمّع، في أبشع أنواع القتل المنهجي.

غزةُ تكتب فصول إبادتها بدماء أطفالها، والعالم يُدوّن إفلاسه الأخلاقي والإنساني بحروف من ذهب وصمت من تآمر

غزّة، الشاهدة على إنسانية ميتة

إن رفح -وقطاع غزة بشكل عام- اختبار للضمير العالمي: في سنة 1956، ذُبح أهلها لأنهم "مقاومون"، وفي سنة 2025 يُذبحون لأنهم أيضًا قاوموا، فحُوصروا وجُوِّعوا، وها هم الآن على مرأى من العالم يُقتلون.. الضحايا أنفسهم، والجلّاد نفسه، ولكن الذرائع تتجدَّد، والصمت يتعمَّق.

السؤالُ الذي يُطارد التاريخ الآن ليس: كيف نوقف هذه الجريمة؟ بل هو: هل بقي للعالم ضميرٌ ليُدان؟

غزةُ تكتب فصول إبادتها بدماء أطفالها، والعالم يُدوّن إفلاسه الأخلاقي والإنساني بحروف من ذهب وصمت من تآمر.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان