شعار قسم مدونات

كيف تعيد شعائر الحج بناء الأمة وتذيب خلافاتها؟

توافد الحجيج على جبل عرفات
توافد الحجيج على جبل عرفات (الجزيرة)

لا تُختزل عشر ذي الحجة في كونها تمهيدًا ليوم النحر، بل هي فضاء زماني موصول بالقداسة والتكليف، تفتح أمام الأمة أبوابًا استثنائية للتجديد الروحي والنهضوي.

وقد رفع الله شأنها في كتابه الكريم بقَسَمه الجليل: {والفجر وليالٍ عشرٍ} [الفجر: 1–2]، وهو قسم لا يأتي إلا لما هو عظيم الشأن، عميق الأثر، وأجمع المفسرون على أن هذه الليالي هي عشر ذي الحجة، التي تُعدّ من أعظم الأزمنة منزلةً في ميزان الشرع. ولعل من أبرز خصائصها أنها:

  • أيام التفضيل المطلق: فقد ثبت عن النبي ﷺ قوله: "ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام"…، وهو تصريح نبوي يضع هذه العشر في صدارة فرص العمر للتزود الإيماني والسمو الأخلاقي.
  • ملتقى أركان الإسلام العملية: ففيها تجتمع الشهادتان (تجديدًا للنية والولاء)، والصلاة (وهي الحبل اليومي بالله)، والزكاة (من خلال الهدي والنحر)، والصيام (لا سيما يوم عرفة)، والحج (ذروة السنام).

وفي ظل عالم يموج بالاستقطابات السياسية، والانقسامات المذهبية، والتشرذم الجغرافي، تتقدم فريضة الحج كمعجزة توحيدية متجددة، ومشهد حيّ لتجسيد وحدة الأمة.

إنها ليست مجرد عبادة طقسية، بل هي ورشة عمل كونية تُعيد عبرها الأمة اكتشاف ذاتها، وترميم مفهومها الحضاري المشترك، بعيدًا عن الهويات الضيقة والنزاعات المصطنعة.

يتجاوز الحج البعد الروحي الفردي ليكون منبرًا سنويًّا لإحياء مفهوم "الأمة الواحدة"؛ فموقف عرفة يُمكن أن يتحول إلى منصة للمصالحات، وحاضنة لحوار مذهبي يضبطه أدب الخلاف وأخوة العقيدة

أولًا: الحج هو تجسيد حي لوحدة الأمة المفتقَدة

يُعد الحج في جوهره أكثر من مجرد أداء شعائر مفروضة؛ إنه تجسيد عملي ومعنوي لوحدة الأمة الإسلامية في أبهى صورها، تلك الوحدة التي باتت في واقعنا المعاصر مطلبًا غائبًا وأملًا مؤجلًا. ففي مشهد يوم عرفة، يقف ملايين الحجاج على صعيد واحد، بلباس واحد، في زمان ومكان موحدين، مجرَّدين من كل امتياز دنيوي.

وقد جسَّد النبي ﷺ هذه المعاني في خطبة الوداع حين قال "يا أَيها النّاس: إن ربكم واحد، وإنّ أَباكم واحد، أَلا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر، إلا بالتقوى، إنّ أكرمكم عند اللَّه أتقاكم، ألا هل بلَّغت؟ قالوا: بلى يا رسول اللَّه، قَال: فليُبلّغ الشاهد الغائب" (أخرجه البيهقي).

إعلان

هذا الإعلان النبوي ليس مجرد خطاب ديني فحسب، بل هو إعلان عالمي للمساواة الإنسانية وتحييد الهويات القومية والطبقية لصالح الهوية الإيمانية الجامعة.

وتأتي رمزية الإحرام لتُعزز هذا المعنى؛ فالتجرد من اللباس المخيط، وتجرد القلب من التعلقات الدنيوية، يوحد الجميع أمام الله في شعيرة تؤسس للمساواة، لا كشعار بل كواقع معيش.

ويوم عرفة ذاته هو يوم التأسيس الشرعي للعدالة الاجتماعية والحقوقية، كما أكده الرسول ﷺ في خطبته العظيمة، التي وضع فيها قواعد وأسس العدالة الاجتماعية في الأموال والدماء والحقوق الأسرية، وعظَّم فيه الحرمات، فكان مما قاله عليه الصلاة والسلام فيها: "فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام، وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، ألا هل بلغت".

ويتجاوز الحج البعد الروحي الفردي ليكون منبرًا سنويًّا لإحياء مفهوم "الأمة الواحدة"؛ فموقف عرفة يُمكن أن يتحول إلى منصة للمصالحات بين الفصائل الإسلامية المتنازعة، وحاضنة لحوار مذهبي يضبطه أدب الخلاف وأخوة العقيدة، في مشهد يتجاوز الحواجز النفسية والتاريخية بين الفرقاء.

ولعل في شعيرة التكبير الجماعي، الذي يتردد في أرجاء الحرم، تذكيرًا بوحدانية الله التي هي أصل الدين، ووحدة الكلمة التي ينبغي أن تسري في الأمة.

وقد أشار الإمام القرطبي إلى هذه المعاني في تفسيره لقول الله تعالى: {ليشهدوا منافع لهم…}، معتبرًا أن التكبير في أيام الحج شعيرة ظاهرة، تُعيد ضبط البوصلة العقدية والاجتماعية للأمة.

الحج نموذج للديناميكية الجماعية التي يمكن استلهامها لتوحيد جهود الأمة، لا في مجال العبادة فحسب، بل في إطلاق مشروعات إستراتيجية مشتركة في مجالات التعليم، والاقتصاد، والصناعة، والدفاع، بروح التكامل لا التنافس، وبمنطق البناء لا التفكك

ويمكن البناء على هذه الرمزية لتأسيس برامج توعوية جماعية في أيام عشر ذي الحجة، تُبثّ في المساجد والساحات ومنصات التواصل، لخلق شعور جمعي بالانتماء الإسلامي يتجاوز النزعات الإقصائية المُمَنهجة إعلاميًّا.

كما يمكن تطوير مؤسسات الأضاحي في المملكة لتكون أداة إغاثية إستراتيجية تُرسل لحظيًّا إلى بؤر الأزمات والمجاعات في العالم الإسلامي، كفلسطين واليمن والسودان وغيرها من البلدان الإسلامية، بما يُعيد صياغة الشعيرة كجسر عملي للتكافل والتلاحم.

ثم يأتي الطواف حول الكعبة، لا كحركة جسدية فحسب، بل كرمز للانضباط الكوني الدائم، واتساق حركة العابد مع حركة الملائكة حول البيت المعمور، كما أوضح الإمام الغزالي في "إحياء علوم الدين"، حين بيَّن أن الطواف ليس حركة البدن حول البيت، بل طواف القلب حول رب البيت! إنه تعبير عن مركزية الله في الوجود، ومركزية القيم العليا في نظام الأمة.

إن الحج، بهذا المعنى المركّب، يُعلّمنا أن المقاصد أسبق من الأشكال، والمعاني أعمق من الحركات؛ فهو نموذج للديناميكية الجماعية التي يمكن استلهامها لتوحيد جهود الأمة، لا في مجال العبادة فحسب، بل في إطلاق مشروعات إستراتيجية مشتركة في مجالات التعليم، والاقتصاد، والصناعة، والدفاع، بروح التكامل لا التنافس، وبمنطق البناء لا التفكك.

مشهد ملايين البشر من كل حدب وصوب، مختلفي الألوان والألسنة والطبقات، مجتمعين في مكان واحد، في وقت واحد، بلباس واحد، يؤدون مناسك واحدة، يرددون ذكرًا واحدًا، هو أبلغ دليل على وحدة الأصل البشري

ثانيا: دور روحانية الحج في معالجة أزمات الواقع

  • مواجهة التفرقة السياسية: يُستلهَم من مشهد الوقوف بعرفة نموذجٌ وحدوي فريد، تتلاشى فيه الفوارق الطبقية والسياسية، حيث لا تعلو سلطة على الجميع إلا سلطة الشريعة، بما يُشكّل دلالة رمزية على أولوية المرجعية الشرعية فوق كل مرجعية بشرية.
إعلان

ومن ثمّ، يُعدّ هذا المشهد تجريدًا عمليًّا لشرعية الأنظمة التي تُكرّس التفرقة والتمزق بين المسلمين.

  • تجسير الهوة المذهبية: يُقدِّم الحج نموذجًا عمليًّا للتعايش المذهبي، حيث يُمارس كل حاجٍّ عبادته وفق مذهبه دون نزاع، ما يؤسس لإمكان تعميم هذا النموذج في المجال العام، كصيغة وحدة في ظل التنوع.
  • مكافحة العنصرية والطبقية: يُجسِّد الإحرام وحدة المظهر والمقصد، مانحًا الإنسان قيمته بمعيار التقوى لا النسب أو المال، بما يُلغي الطبقية ويمحو الحدود العرقية في الوعي الجمعي.
  • بناء منصات حوار دائمة: استلهامًا من لقاءات منى وعرفة، يُقترح تأسيس هيئة فكرية دائمة تجمع علماء الأمة ومفكريها، لتكون منبرًا للتشاور في قضايا المسلمين وتوليد حلول مشتركة.
  • رسالة سلام عالمية: الحج إعلان سنوي لقدرة الإسلام على صناعة مشهد إنساني جامع، تتعايش فيه ملايين النفوس بسلام رغم التوترات الجيوسياسية المحيطة.
  • تجديد الهوية: في مواجهة ضغوط الذوبان الثقافي، يُعيد الحج ترسيخ هوية المسلم كعضو في أمة تتجاوز القوميات والهويات القُطرية، مستندة إلى وحدة العقيدة والقبلة.
  • قوة الروح: تحمُّل ملايين الحجاج مشاقَّ المناسك شهادة عملية على الطاقة الروحية الكامنة في الإيمان، وقدرته على تجاوز حدود الجسد والنفس.
  • حوار الحضارات: يُمثل الحج ملتقى حضاريًّا فريدًا، تتفاعل فيه ثقافات وأعراق متعددة ضمن أجواء من الاحترام والتلاقي، حول مقصد روحي موحد.
  • المشهد الكوني: مشهد ملايين البشر من كل حدب وصوب، مختلفي الألوان والألسنة والطبقات، مجتمعين في مكان واحد، في وقت واحد، بلباس واحد، يؤدون مناسك واحدة، يرددون ذكرًا واحدًا، هو أبلغ دليل على وحدة الأصل البشري (يا بني آدم) وقدرة الإسلام على جمع الشتات تحت مظلة التوحيد.
  • محو الفوارق: ينصهر الجميع في الحج دون امتيازات؛ لا تمييز بين حاكم ومحكوم، غني وفقير، ذكر وأنثى، في مشهد نادر للمساواة المطلقة أمام الله.
  • التضامن والتعاون: يتجلى التكافل الاجتماعي في الحج بشكل عملي، من مشاركة الماء والطعام، إلى مساعدة الضعيف والمرهق، إلى إرشاد التائه.. إنها مدرسة عملية في التعايش السلمي والإيثار والرحمة.

في زمن التمزق والتشظي، تبقى المعادلة الجوهرية في قدرتنا على الانتقال من وحدة الشعائر إلى وحدة الشعور، ومن وحدة المظهر إلى وحدة المشروع، ومن اجتماع الأجساد في المشاعر إلى اجتماع القلوب على مصير مشترك

كما أن الحج، بمناسكه المنظّمة، يشكّل دستورًا روحيًّا عمليًّا يصل العبد بربّه، فإنه يُمثّل أيضًا دستورًا اجتماعيًّا ضمنيًّا لإعادة تشكيل وعي الأمة وتحصين وحدتها.

إن التغافل عن الرسائل التوحيدية العميقة التي يتضمنها الحج، يُعدّ تفريطًا سنويًّا في أكبر فرصة إصلاحية شاملة تُمنَح للأمة عبر مشهد حي وواقعي؛ فالحج ليس طقسًا عابرًا يُختتم بذبح الهدي، بل هو مؤتمر تأسيسي سنوي يعيد التأكيد على مركزية الكعبة، ووحدة القبلة كرمزية لوحدة المصير.

وفي زمن التمزق والتشظي، تبقى المعادلة الجوهرية في قدرتنا على الانتقال من وحدة الشعائر إلى وحدة الشعور، ومن وحدة المظهر إلى وحدة المشروع، ومن اجتماع الأجساد في المشاعر إلى اجتماع القلوب على مصير مشترك.. تلك بعض الرسالة الكونية للحج، فهل نستجيب لندائها؟

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان