هذه أيام يتوافد المسلمون فيها من مشارق الأرض ومغاربها إلى مكة المكرمة، يلبون نداء الله العظيم: "وأذِّن في الناس بالحج"، فيتحللون من ذنوبهم وعلائق دنياهم على صعيد عرفات الطاهر، وتنهمر دموعهم طائفين بالكعبة المشرفة، وترتجف قلوبهم بالتلبية والدعاء، ثم يعودون إلى أوطانهم أصفياء أنقياء بقلوب طاهرة، ونفوس زكية، وسلوك جديد.
وفي ذات هذه الأيام والأوقات الفضيلة الطيبة، يشهد السوريون نوعًا آخر من الحج، له أثر كبير في النفوس، إنه حج إلى أرض غابوا عنها طويلًا، إلى وطن حُرموا من رؤيته، وهُجِّروا قسرًا منه، إلى بيوت وأحياء ومدن خفقت لها القلوب طوال ستين خريفًا، حكم فيها نظام الأسد المجرم بلادنا.
الحج رحلة من عالم العباد إلى حضرة الرب -عز وجل-، رحلة تختصر الحياة والموت والبعث في أيام معدودات، يعود منها الحاج كيوم ولدته أمه، سليم الصدر نقي السريرة
إنها عودة إلى سوريا، إلى وطن تحرر من قبضة الظلم والظلام، واستعاد بعضًا من دفئه وكرامته وأمانه. إنه حج لا يُقام في الحرم، ولا يوقف فيه على صعيد عرفات، لكنه يقام في القلوب وإلى القلوب، ويُحتفل به بالدمع والفرح والتكبير والزغاريد.
الحج عبادة عظيمة، وفريضة وركن جليل من أركان الإسلام، تمثل ذروة التجرد والخضوع لله جل وعلا؛ ففي رحاب مكة تزول الفوارق، وتتساوى الأجساد، ويجتمع المؤمنون على صعيد واحد، يطلبون المغفرة ويرجون الرحمة، ويغسلون قلوبهم من أدران الحياة.
الحج رحلة من عالم العباد إلى حضرة الرب -عز وجل-، رحلة تختصر الحياة والموت والبعث في أيام معدودات، يعود منها الحاج كيوم ولدته أمه، سليم الصدر نقي السريرة.
أما السوريون الذين هُجِّروا مجبرين، وغابوا عن وطنهم أكثر من عقد من الزمان، فقد عاشوا سنوات الاغتراب والفرقة بحنين لا يوصف، وشوق لا يقاس، وألم لا يعرف معناه إلا من كابده. واليوم، وقد تحررت بلادهم من قبضة النظام الأسدي، وبدأت الحياة تدب فيها من جديد، يعود السوريون بلا خوف أو توجس، يعودون فرحين مطمئنين بآمال جديدة، يطؤون تراب الوطن كأنهم لم يغيبوا عنه يومًا. عادوا وقد ولدوا من جديد؛ فالحدود لم تعد فزاعة، والحواجز لم تعد شبحًا، والاعتقال لم يعد تهديدًا وكابوسًا ينغص عليهم حياتهم.. لقد وُئِد زمن التشبيح، وانقشع ليل الظلم، واستيقظ الوطن على صبح جديد فيه دفء الأهل، وأمان البيوت، وبهجة العودة.
الحج إلى بيت الله يطهر الروح، ويملؤها بالتقوى والسكينة والإيمان. والحج إلى الوطن بعد طول فقْد وغربة وتشرد يرمم الذاكرة، ويحيي الانتماء، ويعيد الإنسان إلى جذوره وأصله
أحدهم عاد بعد ثلاثة عشر عامًا، فقبَّل تراب الأرض، وضحك باكيًا كطفل وجد أمه! وآخر احتضن والدته وعانق بيته، فامتلأ كيانه كله بشعور الأمان الحقيقي. هذه العودة ليست عادية، بل هي أشبه بالحج، ليست زيارةً فقط، بل ولادة جديدة في أرض كان الوصول إليها حلمًا.
الحج إلى بيت الله يطهر الروح، ويملؤها بالتقوى والسكينة والإيمان. والحج إلى الوطن بعد طول فقْد وغربة وتشرد يرمم الذاكرة، ويحيي الانتماء، ويعيد الإنسان إلى جذوره وأصله.
وفي الحالتين هناك دموع، دموع الخشوع في الحرم، ودموع الحنين في الحارات والأزقة والشوارع، لكن الفرق بينهما أن إحداهما فريضة موسمية، أما الأخرى فهي احتياج دائم.. أن يعود الإنسان إلى بيته وأهله ومرباه وطفولته، إلى جدرانه، إلى شجرة التين في حوش الدار ودالية العنب، إلى بسمة الجيران، ولقاء الأهل والخلان.
لقد أُسدل الستار على مرحلة طويلة من القهر، وبدأت رحلة البناء من جديد، بالبشر والحجر، بالأمل والنية الصادقة، بالقلوب التي لم تفقد إيمانها بالحياة
نداءان ينتظران الإجابة
كما ينادى المسلم إلى بيت الله في موسم الحج، فيقوم من نوم الراحة، ويترك مشاغله، ويشد رحاله إلى الكعبة طاعةً لله، فإن في هذا الزمن نداءين عظيمين ينتظران الإجابة: نداء الحج إلى مكة لمن استطاع إليه سبيلًا، دعوة مفتوحة لكل من أخر، أو تردد، أو انشغل، ليجدد العهد مع الله، ويقف حيث وقف سادتنا إبراهيم وإسماعيل ومحمد عليهم الصلاة والسلام، ويتطهر من الدنيا ليعود بروح جديدة.. ونداء العودة إلى سوريا لكل سوري استقر في أرض الغربة، وأعجبته الحياة فيها، أو تبلدت فيه مشاعر الشوق، أو استصعب طريق العودة؛ فالوطن بحاجة إلى من يبنيه، لا من يتذكره فقط في الصور.
إن سوريا اليوم ليست كما كانت، لقد فتحت أبوابها من جديد، وأزاحت عن وجهها غبار القهر، ومدت يدها لأبنائها، لا لتعاتبهم، بل لتحتضنهم وتقول: عودوا إلي يا أحبابي، فأنتم أبنائي وأحفادي، ولا ينهض البيت إلا بأهله. اليوم، سوريا ليست كما كانت في سنوات الجهل والجور والفساد، وليست ساحة خوف أو مذلة، لقد بدأت تتعافى وتمد ذراعيها لأبنائها، وتقول لكل مهجّر: أهلًا بك، لا غياب بعد اليوم، ولا دمعة بعد الآن.
لقد أُسدل الستار على مرحلة طويلة من القهر، وبدأت رحلة البناء من جديد، بالبشر والحجر، بالأمل والنية الصادقة، بالقلوب التي لم تفقد إيمانها بالحياة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.