شعار قسم مدونات

تمائم المعرفة الزائفة

الكاتب: ليس يَخفى على ذي رويَّة أن اللغة -على ما فيها من سحر البيان- ذات طبع ماكر؛ فهي تزيّن المعاني وتُلبس المعقّد لبوس المألوف (الذكاء الاصطناعي)

ليس أشدّ إيغالًا في الغموض من فكرة حسبناها مفهومة؛ فالذهن لا يتعثر عند العويص من المسائل بقدر ما يخدع نفسه حين يظن أنه قد استوفى الفهم. والوضوح الذي نطمئن إليه، كثيرًا ما يكون حيلة عقلية، تسرق من الفكر قلقه، وتُلبِسه لباس الرضا، وهو لا يدري أنه رَكَن إلى سطح من المعنى، لا إلى جذر من الحقيقة.

فما الفهم يا تُرى؟ أهو أن يستحيل المعنى أمام الفكر كما تستحيل المرآة أمام الناظر، فتُظهر ما وراءها بلا زيادة ولا نقصان؟ أم إنه تلك المصالحة الماكرة التي نعقدها مع الغامض، فنُسكّن بها قلق السؤال، ونُسكت بها ضجيج الحيرة؟ إننا -في الغالب- لا نطلب الحقيقة لذاتها، بل نلتمس منها صورة تُرضينا، ولو كانت صورة مُلفَّقة، أو قناعًا تجيد اللغة صناعته.

مِن أشد ما تُضَلّ به العقول: ما بدا لها باديَ الرأي واضحًا، فركنت إليه، وأغلقت دونه أبواب السؤال؛ وما أكثر ما كان الوضوح مقبرةً للتساؤل

الطفل حين يسأل: "ما الزمن؟"، فيقال له: "هو الساعة التي تدق"، لا يطمئن لأنه أدرك جوهر الزمن، بل لأنه ظفر بلفظة يُسكت بها فضوله. ونحن، وإن شاب الشعر فينا، لا نحسن غير ما يحسنه الطفل: نربط الجهل باللفظة، ونحسب أنَّا عرفناه؛ وما أكثر ما تكون التسمية حجابًا لا كشفًا، وستارًا لا بيانًا.

وليس يَخفى على ذي رويَّة أن اللغة -على ما فيها من سحر البيان- ذات طبع ماكر؛ فهي تزيّن المعاني، وتُغوي بالعناوين، وتُلبس المعقّد لبوس المألوف.

كلمة "العدالة"، مثلًا، لا يندُر أن تُنطق وكأن معناها في متناول الجميع؛ ولكن سل القلوب عنها، وسل العقول، وسل التجارب، تجد ألف تعريف يتنازعها: أهي المساواة التامة، أم مراعاة الفروق؟ أهي عدالة القانون، أم عدالة الضمير؟ وهل العدل الذي يُرضي فئة يُرضي فئة أخرى؟ أم إنه وهمٌ تُسوّيه الألسنة، ويُكذّبه الواقع؟

مِن أشد ما تُضَلّ به العقول: ما بدا لها باديَ الرأي واضحًا، فركنت إليه، وأغلقت دونه أبواب السؤال؛ وما أكثر ما كان الوضوح مقبرةً للتساؤل. والتساؤل روح الفكر، فإذا غاب، ذَوَت المعرفة، وسكنت.. وكل جواب لا يُولّد سؤالًا جديدًا، فهو جواب مبتور، أو معرفة توقفت عن التنفس. وهل خرجت الفلسفة إلا من رحم الشك؟ وهل نبت العقل إلا في تربة التردد والبحث؟ إن المسلَّمات التي لم يُعَد النظر فيها، قد تكون كالسفن الراسية: جميلة في مظهرها، عاجزة في جوهرها.

يبقى الوضوح امتحانًا لا يُطمأنّ إليه، بل يراقَب ويلاحَق، ويُساءَل في كل لحظةٍ: أأنت كشفٌ صادق، أم قناع آخر من أقنعة الغفلة؟

وقد يُقال: إن الجهل مكروه، ولكنه أصدق من وهْم الفهم؛ فالجهل يبوح بعجزه، ويُهيئ النفس للتعلّم، أما الفهم الكاذب فغالبًا ما يلبس ثوب اليقين، ويُحاجّ بمنطق أجوف، ويستقوي بالتكرار حتى يغدو وهمًا جماعيًّا. ولسنا ندري كم من الأقوال التي نتداولها ليست سوى صدى لما قاله غيرنا، دون أن نجرب صدقه، أو نتبين معناه.

إعلان

فهل نملك -بعد هذا- الجرأة أن نرتاب فيما اعتدناه؟ هل فينا الشجاعة أن نُخضع البديهي للفحص، وأن ننظر إلى اللغة بريبة المحقق، لا بتسليم المستمع؟ فإن كل فكرة مستنيرة، كانت ذات يوم سؤالًا معادًا، وظن الناس أنه قد أُجيب، فجاء من يُعيد فتحه، فإذا بالحقيقة تُطلّ من جديد، في وجه لم نألفه من قبل.

وهكذا، يبقى الوضوح امتحانًا لا يُطمأنّ إليه، بل يراقَب ويلاحَق، ويُساءَل في كل لحظةٍ: أأنت كشفٌ صادق، أم قناع آخر من أقنعة الغفلة؟

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان