الهجرة ليست أرقامًا تكتب وسنوات تمر، بل تجاربَ تبني أمة، وأخلاقًا ترتقي بالمجتمع؛ ففي زمن كثرت فيه الحروب، واضطر الناس لحياة النزوح، والبعد عن الديار وحياة الاستقرار، تقدم لنا الهجرة النبوية مواساة لمن ترك وطنه وبيته وأسرته.
فالهجرة لم تكن نزهة؛ ولكنها مغادرة الأرض والأهل، وأسباب الرزق والأموال، والذكريات والحياة الاجتماعية في مكة، وهي التخلي عن كل ذلك من أجل العقيدة.
أول ما نتعلمه من الهجرة النبوية أن إرغام الإنسان على ترك الوطن هو أعظم ابتلاء، ترك الدار والذكريات والأهل والأموال ليصبح لاجئًا ونازحًا في غير بلاده
وقد جاء في القرآن المكي التنويه بالهجرة، ولفت النظر إلى أن أرض الله واسعة؛ قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمنوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].
هاجر الرسول -ﷺ- من مكة، بلده ومسقط رأسه وسط أهله وذويه، إلى مكان غير مألوف له! ومكة قد ثبت حب النبي -ﷺ- لها، فعن ابن عباس قال: قال رسول الله -ﷺ- لمكة: "ما أطيبك من بلد، وأحبك إليَّ، ولولا أن قومي أخرجوني منكِ ما سكنتُ غيرَك" [رواه الترمذي وصححه، ورواه الألباني في صحيح الجامع].
إن هجرة شعب إلى ديار شعب آخر ليست بالأمر السهل، وما أكثر هجرة الشعوب العربية في السنوات الأخيرة، الشعوب التي تركت كل ما تمتلك بسبب الحروب.
لا شك أنه عبء كبير على الجهة المستضيفة، وقد كانت تلك الجهة في مشهد الهجرة يثرب (أو المدينة المنورة بعد ذلك)، التي لم تكن بقوة قريش عسكريًا واقتصاديًا وسياسيًا، وأغلب القادمين إلى المدينة تركوا ما عندهم من مال في بلدهم، وبالتالي فإنهم والفقراء في مرتبة واحدة: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [سورة الحشر: الآيه 8].
مما قررته هذه الآية في شأن المهاجرين:
- أولًا: أنهم فقراء.
- وثانيًا: أنهم مهاجرون.
- وثالثًا: أنهم أخرجوا من ديارهم وأموالهم.
بالنسبة للوضع الاقتصادي، فقد أصبح أصعب من ذي قبل، لكن الأنصار على دراية بذلك. أضف إلى ذلك اليهود ومن سيُطلق القرآن عليهم لفظ "المنافقين"، وما قاموا به من إثارة النزعات العنصرية في نفوس البعض ضد هؤلاء المهاجرين، الذين "ما جاؤوا إلا ليتقاسموا لقمة عيشهم مع أهل يثرب، بل ربما السيطرة عليها بعد حين"، وغيرها من أكاذيب اليهود والمنافقين، كما هو الحاصل في بلدان تحتضن شعوبًا اضطرت لترك بلدها بعد أن فقدت سبل العيش.
ومشهد المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار لم يُشهد له مثيل في التاريخ، وكان حلًا من الحلول لتثبيت أسس الدولة. ثم هناك وثيقة المدينة، التي وضعها النبي الكريم -ﷺ- بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب.
كل منا في حاجة إلى هجرة؛ من الرياء إلى الإخلاص.. من الخيانة إلى الأمانة.. من الكذب إلى الصدق.. من الضلال إلى الهداية.. من الإفساد إلى الإصلاح
أول ما نتعلمه من الهجرة النبوية أن إرغام الإنسان على ترك الوطن هو أعظم ابتلاء، ترك الدار والذكريات والأهل والأموال ليصبح لاجئًا ونازحًا في غير بلاده، ولعل كل من تذوق مرارة وألم ومعاناة ترك دياره يعلم ذلك. وتُعتبر الهجرة النبوية الشريفة منبعًا للعديد من القيم الأخلاقية العظيمة، ومن أبرزها الصبر، والتضحية، والصدق، والإيثار، وأداء الأمانة:
- الصبر: مشقّة الطريق لأجل النور، وصبر يُثمر أمة.
- الصدق: ظهرت قيمة الصدق في أكثر من موقف، حيث ضرب النبي -ﷺ- وأصحابه- رضي الله عنهم- أروع الأمثلة في الصدق؛ فكانوا صادقين في التضحية بكل شيء فى سبيل الله، عز وجل.
- التضحية: فقد جسدها سيدنا أبو بكر الصديق-رضي الله عنه- في كل خطوة كان يتخذها قبل وأثناء الهجرة، وسيدنا علي -رضي الله عنه- عندما رقد في فراش النبي -ﷺ- ليلة الهجرة.
- الإيثار: ما قام به الأنصار من مواقف تجاه المهاجرين من اقتسام للممتلكات.
- الأمانة: سيدنا علي بن أبي طالب وتوزيع الأمانات.
- المواطنة والتعايش السلمي: حيث قدم النبي -ﷺ- المدينة وبها العديد من الطوائف، فوضع النبي -ﷺ- وثيقة المدينة لترسيخ مبدأ المواطنة والتعايش السلمي.
مع بداية كل عام هجري جديد يتأكد لنا أن الهجرة النبوية الشريفة مدرسة نتعلم منها الكثير، وعلى المسلم أن يجدد العهد مع الله بالامتثال لأوامره، والتأسي بسيرة رسوله الكريم، ﷺ.
كل منا في حاجة إلى هجرة؛ من الرياء إلى الإخلاص.. من الخيانة إلى الأمانة.. من الكذب إلى الصدق.. من الضلال إلى الهداية.. من الإفساد إلى الإصلاح.
كل منا في حاجة إلى الهجرة خلال مراتب النفس، من النفس الأمارة بالسوء إلى النفس المطمئنة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.