في حين انزاح أغلب العالم إلى منصات جديدة، ما يزال "فيسبوك" يتصدّر المشهد الرقمي السوري، ليس لأسباب تقنية أو جمالية، بل لأنه منفذ البوح الوحيد بعد عقود من الصمت المُقنَّن.
لكن هذا الفضاء، رغم انفتاحه الظاهري، تحوّل في كثير من الأحيان إلى صندوق أسود، تُعاد فيه صناعة الوعي وفق منطق فوضوي، تتصدّره مشاهد العنف والفوضى، وتغيب فيه السياقات والأصوات المتنوعة.
كان المواطن السوري حتى وقت قريب لا يستطيع رفع هاتفه لتوثيق صوت أو صورة دون أن يحاسَب. اليوم، وبعد انزياح القبضة الأمنية، لم يعد الخوف وحده ما يقيّده، بل التشوّه العميق في علاقته بالتعبير
لم يعد "فيسبوك" مكانًا للتعارف أو التعبير الشخصي، بل مساحة يُعاد فيها إنتاج أخبار مأساوية بصيغة منفصلة عن التحليل؛ منشورات تنقل حوادث منفصلة من مدن مختلفة. سرقة في حلب، انفجار في درعا، اشتباك في دمشق، طابور خبز في حمص! وكأنها تحدث في لحظة واحدة، في نفس الزمان والمكان. هذه الجمعية الانفعالية لا تنقل الواقع، بل تعيد توليفه على هيئة صدمة يومية متواصلة.
تشير هذه المنهجية إلى ما يُعرف في الفلسفة والمنطق بـ"مغالطة النوع" (Category Error)، أي التعامل مع عناصر غير متجانسة وكأنها قابلة للجمع المباشر.
كمثال: درجة الحرارة في إدلب 46، وفي اللاذقية 40؛ هل يصح أن نقول: "نحن نعيش في درجة حرارة 86″؟ طبعًا لا. لكن هذا تمامًا ما تفعله التغطية غير السياقية حين تجمع أخبارًا متباينة في يوم واحد، فتُنتج وعيًا مختلًا لا يرى الصورة الكاملة، بل تراكبًا خادعًا للمآسي.. فما السبب؟
لقد كان المواطن السوري حتى وقت قريب لا يستطيع رفع هاتفه لتوثيق صوت أو صورة دون أن يحاسَب. اليوم، وبعد انزياح القبضة الأمنية، لم يعد الخوف وحده ما يقيّده، بل التشوّه العميق في علاقته بالتعبير.
فالمجتمع لم يتعافَ بعد من أثر القمع طويل الأمد، بل ما زال عاجزًا عن إنتاج مفاهيم جديدة للغضب، للاعتراض، للحزن. الكلمات نفسها منهكة، والمشاعر تُعرض عبر وسائل التواصل كما لو كانت واجب عزاء دائم.
نحتاج إلى وعيٍ جماعي جديد لا يختصر الوطن في نشرات الحوادث، ولا يحصر المجتمع في موجات الحزن، ولا يحبس اللغة في قوالب العجز.. وعي يعيد تعريف التعبير باعتباره فعلًا معرفيًا، لا تنفيسًا عاطفيًا
تغذية هذا النمط من التغطية تُنتج أثرًا نفسيا معروفًا باسم "العجز المتعلَّم" (Learned Helplessness)، حيث يقتنع الفرد تدريجيًا بأنه غير قادر على التغيير أو الفعل. أمام هذا السيل من القصص السلبية والتشويش العاطفي، تتحول وسائل التواصل من أدوات تمكين إلى وسائل تفريغ وشلل.
التحدّي ليس في تجاوز الألم، بل في وضعه ضمن سياقه الصحيح، والمطلوب ليس إسكات الشكوى، بل تحريرها من الصياغة الفوضوية.
نحتاج إلى وعيٍ جماعي جديد لا يختصر الوطن في نشرات الحوادث، ولا يحصر المجتمع في موجات الحزن، ولا يحبس اللغة في قوالب العجز.. وعي يعيد تعريف التعبير باعتباره فعلًا معرفيًا، لا تنفيسًا عاطفيًا فقط.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.