شعار قسم مدونات

عشر ذي الحجة.. إشراق ملء الزمان والمكان!

توافد الحجيج على جبل عرفات
الحجيج على جبل عرفات (الجزيرة)

تجسيدًا لتلازم ثنائية الذّكر والتجارة في أيام العشر من ذي الحجة، يروى أن ابن عمر وأبا هريرة كانا يخرجان إلى السوق فيكبّران ويكبر الناس بتكبيرهما؛ إفشاء للذكر في موطن الانصراف إلى البيع والشراء والمعاش الدنيوي.

ويُفهم من سياق صنيع الصحابيين الجليلين أنّ باعثهما التذكير وإفشاء فضيلة الذكر في هذه الأيام العظيمة، التي يَنظُر فيها إلى يوم عرفة، التي يقارِن فيها يومُ عرفة ليلةَ القدر في الأجر والفضل والمنزلة، لدرجة جعلت بعض المحققين من أهل العلم يجمع بين ما جاء في أفضلية ليلة القدر ويومي عرفة والنحر بأنّ "العشر الأواخر من رمضان أفضل من جهة الليل؛ لأن فيها ليلة القدر، والعشر الأوائل من ذي الحجة أفضل من جهة النهار؛ لأن فيها يوم عرفة، وفيها يوم النحر، وهما أفضل أيام الدنيا"!.

الأضحية في حق غير الحاج تقابل الهدي، وصوم يوم عرفة يقابل الوقوف على صعيدها يوم التاسع من ذي الحجة، والامتناع عن قص الأظفار والكفُّ عن الأخذ من شعر الرأس في حق المضحي اقتداءٌ بالحاجّ

ذكر ومنفعة

ويتجلى تلازم ثنائية الذكر والتجارة في الأيام العشر في الآية: ﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم من بَهِيمَةِ اِلْأَنْعَامِ ۖفَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ﴾. وقد فُسّرت "المنافع" بأنها الأجر في الآخرة، والتجارة في الدنيا، ورُوي عن ابن عباس أنها الأسواق. ومن هنا اختصّ الحج باسم "الموسم" دون قيد؛ لما ينقلب به الحاجّ من مردود مادي وعائد معنوي، كما يُسرّ الزارع في موسم الحصاد بعائد حقله ومحصول حرثه، ولاجتماع الناس بأعداد كبيرة، ووفودهم من كل فجّ عميق، في أكبر تجمّع بشري عالمي.

عظَمة زمكانية

وقد انتقل تنازُع "الزمكانية" من لفظة "الموسم" في معجمها اللغوي إلى الحجّ في مجاله العبادي؛ إذ "الموسم" اسم زمان واسم مكان، والحجّ ميقات زماني معلوم، وموعد مكاني مخصوص (حدود منطقة المشاعر بمكة حاليًا).

لكنّ خصوصية المكان وازتها عمومية تقليد الحاج في أفعاله (مع فارق التقرّب العبادي والحكم الشرعي)؛ فالأضحية في حق غير الحاج تقابل الهدي، وصوم يوم عرفة يقابل الوقوف على صعيدها يوم التاسع من ذي الحجة، والامتناع عن قص الأظفار والكفُّ عن الأخذ من شعر الرأس في حق المضحي اقتداءٌ بالحاجّ.

في حديث الإسراء والمعراج الطويل ذُكر تحوُّل الخمسين صلاة يوميًا إلى خمسٍ، بعد مراجعة محمد ﷺ ربّه، عملًا بنصيحة موسى -عليه السلام-، لتبقى الحكمة العددية محجوبة

تأسٍّ واقتداء

وليس الاقتداء ذا وجهة واحدة؛ فالحاجّ نفسه حين يسعى بين الصفا والمروة يقتدي بأفعال انتقلت من العادة إلى العبادة، وليس ذلك في مجرد التصرف، بل في عدد الأشواط (السبعة)؛ أسوة بهاجر زوج سيدنا إبراهيم -عليه السلام- التي قطعَت تلك الأشواط عَفْويًا، حين كانت تلتمس الماء لابنها  إسماعيل -عليه السلام- فتصعد على جبل الصفا ثم تنزل حتى تصل جبل المروة؛ مكرِّرة السعي سبعة أشواط بحثًا عن الماء، الذي وجدته أخيرًا عند موضع زمزم.

إعلان

استحضار ورمزية

وفي رمي الجمار يستحضر الحاج -تطبيقيًا- وغيره -ذهنيًا- فعل أبي الأنبياء إبراهيم -عليه السلام- لمّا اعترضه الشيطان -لعنة الله عليه- فوسوس إليه ألا يذبح ولدَه إسماعيل -عليه السلام- فرماه بسبع حصيات، ثم انطلق فاعترضه أخرى فرماه بسبع، ثم انطلق فاعترضه ثالثه فرماه، ثم أضجع ولدَه وتلَّه للجَبين، وأجرى السكين على عنقه فلم تقطع، وفُدِي ابنُه بذِبح عظيم، ونودي الأب {أن يا إبراهيم قد صدَّقت الرؤيا}.

ومن هنا كان لركن الحجّ ما لم يكن للصلاة من قُرب التعليل ودنُوّ التأصيل في جانبي الحِكمة والعدد؛ ففي حديث الإسراء والمعراج الطويل ذُكر تحوُّل الخمسين صلاة يوميًا إلى خمسٍ، بعد مراجعة محمد ﷺ ربّه، عملًا بنصيحة موسى -عليه السلام-، لتبقى الحكمة العددية محجوبة، لغياب الإحالة الذهنية بين يدي سؤال العَدَدية: لماذا الفجر ركعتان؟ ولماذا المغرب ثلاث؟ ولماذا العشاء أربع؟!

وتحت هذا "الارتباط الذهني" تكمن "رمزية" إرغام الشيطان، وقد حمل ذلك الارتباط بعض العوامّ على تصوّر إلحاق الأذى "الجسدي" بالشيطان (عند رمي الجمَرات)؛ فتجاوزوا منصوص تخيُّر الحصَيات الصغار التي يُرمى بها "الرجيم"، وشدّدوا على أنفسهم فأخذوا يرمون بما تناله أيديهم، مما ثقل حَمْله وكبُر جِرمه من قطع الخشب والحديد، وكأنهم يحسَبون أنهم ينالون من إبليس بدنيًّا!

إن عجيج الحَجيج وتلبيتَهم لتتردد في أرجاء النفس قبل أن تتردد في رحاب الحرَم، وإن خصوصية المكان لمتّصلة السبب بعمومية الزمان: عظمةً وفضلًا وقُربةً وزُلفى

صَغار إبليس

وحسْب إبليس ما يلحقه من الخزي والصغار يوم عرفة، لما يرى من تنزُّل الرحمة والتجاوز عن الذنوب والاستجابة لأهل الموقف، والمباهاة بهم، مصداقًا للحديث: "ما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة، ينزل الله تعالى إلى سماء الدنيا، فيباهي بأهل الأرض أهل السماء، فيقول: انظروا إلى عبادي، جاؤوني شعثًا غبرًا ضاجين، جاؤوا من كل فج عميق، يرجون رحمتي، ولم يروا عقابي، فلم يُر يوم أكثر عتقًا من النار، من يوم عرفة".

ورُوي عن أنس -رضي الله عنه- قوله: كنت مع رسول الله ﷺ في مسجد الخيف قاعدًا، فأتاه رجل من الأنصار، ورجل من ثقيف، فذكر حديثًا فيه طول، وفيه: "وأما وقوفك عشية عرفة، فإن الله يهبط إلى سماء الدنيا، ثم يباهي بكم الملائكة، فيقول: هؤلاء عبادي جاؤوني شعثًا سفعًا، يرجون رحمتي ومغفرتي؛ فلو كانت ذنوبكم كعدد الرمل، وكعدد القطر، وكزبد البحر، لغفرتها. أفيضوا عبادي مغفورًا لكم، ولمن شفعتم له"!

إشراق ملء النفس

هذا وإن عجيج الحَجيج وتلبيتَهم لتتردد في أرجاء النفس قبل أن تتردد في رحاب الحرَم، وإن خصوصية المكان لمتّصلة السبب بعمومية الزمان: عظمةً وفضلًا وقُربةً وزُلفى.. فيا سعد من عمر العشر بالذكر والدعاء وصالح العمل، ولئن جمع -إلى ذلك- الحجَّ المبرور فقد أصاب الغُنمَ من أطرافه، وانقلب بنعمة من الله وفضل!

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان