- أيها السادة.. ها قد عدت إليكم، متعبًا، خائبًا، من دون نبأ يقين أو عنوان!!
لقد طرقت كل الأبواب، وقصدت كل الديار، وبحثت طويلًا عن معنى الإنسان، وقلَّبت مليًّا في صفحات المعاجم، وفي متن القواميس، وجُذاذات النواميس، وألواح الأسفار.
لقد بحثت طويلًا عن معنى الإنسان في نشرات الأخبار، وعناوين الصحف، وفي خطابات الساسة المنمقة، وأدعية الأئمة والرهبان.. لقد بحثت عنه في الطرقات المتربة، وفي الغيم والسحاب، بين ثنايا الحجر، وبياض الملح، والزوايا المعتمة، وثقوب الذاكرة، والجدران؛ فقيل لي إنه اندثر، وضاع أثره منذ زمن!!
بحثت طويلًا عن صورة الإنسان في مشاهد الموت الزؤام في غزة، فما وجدت إلا جثثًا ملقاة في الطرقات تنهشها الكلاب، وغربانًا تنعق طربًا في السماء. في غزة عيون زائغة تحدق في الفراغ، وجياع، عراة، حفاة يتلقفون بقية من طعام ويستجدون شربة ماء.
- أيها السادة.. في غزة يجوع الأحرار، فأين الإنسان؟
في دروب رفح، وبين حبات رملها، وجوه غبِرة كالحة، وجحافل جوعى يتدافعون للظفر بحبة أرز، وأطفال خاصموا الدمى، وهجروا حجرات الدراسة، يتنازعون كسرة خبز مخضبة بالعرق والدماء.
في غزة نار ورماد، ودخان يعمي الأنظار، ويحجب أزهار السوسن والنرجس وشقائق النعمان.
في غزة.. لا صوت يعلو فوق صياح الجياع، وأنين المرضى، ونحيب الأرامل والأيتام، ومواء القطط المذعورة، وزمجرة الطائرات، وأزيز الرصاص، فأين الإنسان؟
- أيها السادة.. لم أيأس، ولم أستسلم أمام الصمت وذل السؤال.. صدقوني!!
لقد سألت صاحب الدكان، وفي دواوين الحكام، وحتى حاجب السلطان.. لقد سألت كل من يهمه السؤال، وكل من صادفته في الخيام، وفوق أسرّة المستشفيات، وأنقاض المنازل، وعند شواهد القبور.
لقد سألت الصم والبكم والعميان، وكل من لم يعزف عن الكلام!! بل إنني سألت حتى شهرزاد عن الكلام المباح قبل أن يدركها الصباح!!
صدقوني!! لقد سألت بفصيح الكلام عن الإنسان هناك في غزة، حيث يخبُّ البحر، وأشعة الشمس تلسع كالسياط.. هناك حيث تحلَّبت أفواه العطشى، وتشققت الشفاه، وخابت أحلام الشيوخ في نقطة ماء تنقع الظمأ، وتدفع عنهم حرج السؤال، ولا إنسان.
في غزة.. لا صوت يعلو فوق صياح الجياع، وأنين المرضى، ونحيب الأرامل والأيتام، ومواء القطط المذعورة، وزمجرة الطائرات، وأزيز الرصاص، فأين الإنسان؟
في غزة، حيث يدخل الموت الديار صباح مساء من دون استئذان، بحثت كثيرًا عن الإنسان، في زمن النكبة والهوان والتيه بين التلال، فما وجدت إلا كائنًا فظًّا، غليظًا وقاسيًا يسحق أخاه الإنسان!!
رجاء، أعيروني إبرة أخز بها نفسي، ومرآة كي أرى فيها انعكاس ذاتي، لأصدق أنني إنسان.
قيل في زمن من الأزمان إن الجوع كافر.. فوالله والله، ما وجدت أكفر من الإنسان!!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.