حين يولد الأمل من رحم الألم

ربما نستخدم مشاعرنا السلبية كدرع لتفادي الاعتذار، ولاعتقادنا أننا إذا ما أغرقنا أنفسنا في تلك المشاعر فإننا بذلك نقدم تعويضا كافيا عن كل ما فعلناه.
الكاتب: الألم ليس عدوًا دائمًا وإن بدا كذلك في البداية.. إنه معلم قاسٍ لكنه صادق (شترستوك)

في حياة كل إنسان مواقف تترك ندوبًا في القلب، ولحظات لا تنسى، نظن فيها أن العالم قد انطفأ! تتهاوى الأحلام، وتفترسنا الخيبات، ونقف على أطلال أنفسنا عاجزين عن الفهم.

هناك مراحل نظن فيها أن الحياة توقفت، وأن لا شيء بعد هذه اللحظة قادر على أن يفرحنا أو يبعث فينا الدفء من جديد؛ نُخذل ممن وثقنا بهم، نُقصى من أماكن حلمنا بها، نفشل رغم كل السعي، ونظن أن النهاية قد كتبت فصولها الأخيرة.. غير أن الحقيقة التي لا نراها لحظتها، أن تلك الانكسارات ليست نهاية، بل بداية خفية لرحلة أعظم.

حين نكون على حافة الانهيار نفاجأ.. الأمل لا يحتاج إلى ظروف مثالية كي يولد، بل يكفي أن نسمح له بالتسرّب إلى أرواحنا، ولو من ثغرة صغيرة في جدار الحزن

ما يغيب عنا في تلك اللحظة القاسية، أنه في أعماق الألم تكمن بذور الأمل، تنمو بصمت تحت رماد الجراح، وأنه في أحلك أوقات الانكسار يصاغ جوهر قوتنا الحقيقية، ويُنسج من الألم أسمى أجزاء ذاتنا.

الألم ليس عدوًا دائمًا، وإن بدا كذلك في البداية.. إنه معلم قاسٍ، لكنه صادق، يفتح أعيننا على أشياء لم نكن نراها، ويدفعنا لاكتشاف قوتنا الحقيقية! عندما نخسر شيئًا ثمينًا، أو نُخذل من أقرب الناس، أو نفشل بعد جهد طويل، نعتقد أننا انتهينا.. لكن، شيئًا فشيئًا تبدأ النفوس تتعافى، والعقول تهدأ، وتكتشف القلوب أنها ما زالت قادرة على الحب والفرح من جديد.

وقد يفقد المرء وظيفة أو عملًا، ويظن في تلك اللحظة أن حياته توقفت، وأن المستقبل مظلم لا يلوح فيه أي أمل.. يشعر باليأس، وربما بالإحباط، وكأن كل ما بذله من جهد قد ذهب هباء.

لكن مع مرور الوقت، ومع محاولة إعادة ترتيب الأمور، يكتشف أن فقدان الوظيفة والعمل لم يكن إلا بابًا أغلق، لكنه فتح أمامه أبوابًا أخرى للتعلم، وللتجديد، وللبداية من جديد في مجال أفضل أو في تجربة أكثر ثراء! وهنا يأتي دور الأمل، هذا الشعور الذي يولد غالبًا في أحلك اللحظات.

حين نكون على حافة الانهيار نفاجأ.. الأمل لا يحتاج إلى ظروف مثالية كي يولد، بل يكفي أن نسمح له بالتسرّب إلى أرواحنا، ولو من ثغرة صغيرة في جدار الحزن.

تُظهر التجارب أن أولئك الذين مروا من الألم هم أكثر نضجًا، وأكثر وعيًا، وأقرب إلى فهم المعنى الحقيقي للحياة.. لم يعد يغرّهم السطح والقشور، ولا تخدعهم المظاهر؛ فهم يعرفون أن الحياة خليط من الفرح والحزن

أحيانًا، لا ندرك أن الله ينقذنا ونحن نظن أنه يُبعد عنا شيئًا جميلًا، لكن الحقيقة أن رب العالمين لا يقدّر لنا شيئًا إلا لحكمة، ولا يمنع عنا أمرًا إلا وفي المنع رحمة! ربما يظن المرء أن خسارة شخص أحبه فجوة لا تُسد، لكن الأيام كفيلة بأن تثبت أن الفجوة كانت حماية، وأن القادم يحمل من الحنان ما ينسيك وجع البدايات.

إعلان

تزخر الآيات القرآنية برسائل سامية، تؤكد أن الألم والابتلاء ليسا نهاية الرحلة، بل هما فصل من فصولها المضيئة. يقول الله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5-6]. وفي آية أخرى، يربط الله بين ما نكرهه وما فيه الخير لنا، وأن حكمة الله أعظم من إدراكنا المحدود: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} [البقرة: 216].

تُظهر التجارب أن أولئك الذين مروا من الألم هم أكثر نضجًا، وأكثر وعيًا، وأقرب إلى فهم المعنى الحقيقي للحياة.. لم يعد يغرّهم السطح والقشور، ولا تخدعهم المظاهر؛ فهم يعرفون أن الحياة خليط من الفرح والحزن، من النجاح والفشل، من اللقاء والفقد.. لكنهم أيضًا يعرفون أنها تستمر، وأن كل نهاية ليست إلا بداية لشيء جديد.

حين يولد الأمل من الألم، لا يعود الألم بلا معنى.. حين ننهض بعد السقوط، لا تعود الهزيمة سوى خطوة في طريق النضج

كم من شخص فقد أحلامه، ثم صنع غيرها! كم من قلب كُسر، فعاد من جديد يحب بقلب أرقى ونفس أنقى! كم من إنسان بكى أمس، وهو اليوم يضحك من قلبه!. هكذا هي الحياة، وهكذا نحن كبشر: لا نسقط إلى الأبد، ولا نحزن إلى الأبد، في داخلنا دائمًا ضوء صغير لا ينطفئ، هو الأمل.

إن الصعوبات لا تُدمّرنا، بل تُربينا؛ تجعلنا نعرف من نحن، وماذا نريد، وتقرّبنا من ذاتنا الحقيقية. وكل لحظة صعبة عشناها، إن أحسنا النظر إليها فسنجد أنها تركت فينا دروسًا ثمينة، وحِكَمًا عميقة، وقوة لم نكن نعرف أننا نملكها.

حين يولد الأمل من الألم، لا يعود الألم بلا معنى.. حين ننهض بعد السقوط، لا تعود الهزيمة سوى خطوة في طريق النضج.

ستبتسم من قلبك مرة أخرى، وتقول: "لقد كنت أظنها النهاية.. لكنها كانت البداية فقط".

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان