شعار قسم مدونات

اعتقالات ورسائل ضد موسكو.. ماذا يحدث في أرمينيا؟

صورة لرئيسية لرجال الأعمال الروسي Samvel Karapetyan
رجل الأعمال الروسي سامفيل كارابيتيان (الصحافة الروسية)

ليست صدفة أن يُعتقل رجل أعمال يحمل الجنسية الروسية في قلب العاصمة الأرمينية، في توقيت بالغ الحساسية كالذي نعيشه.. العلاقة بين موسكو ويريفان تخضع اليوم لاختبار غير مسبوق.

اعتقال سامفيل كارابيتيان، رجل الأعمال الروسي- الأرميني، لم يكن مجرد إجراء أمنيّ محليّ، بل كان خطوة سياسية واضحة، وذات طابع رمزي بليغ، وجّهتها حكومة رئيس الوزراء الأرميني، نيكول باشينيان، إلى موسكو بوضوح: الشراكة التاريخية بين البلدين لم تعد مقدّسة، بل أصبحت عبئًا على المشروع السياسي الغربي الجديد، الذي يقوده باشينيان.

الكنيسة ليست تفصيلًا في المشهد الأرميني، بل أحد أعمدة الهوية الجامعة للشعب الأرميني في الداخل والشتات، بل وحتى في الجغرافيا الروسية، حيث يرأس المطران يزراس نيرسيسيان الكنيسة الأرمينية في موسكو، ويحظى بدعم مباشر من شخصيات كبرى مثل كارابيتيان

كارابيتيان ليس شخصية رمزية فحسب، بل أحد أبرز الجسور الاقتصادية والروحية التي ربطت بين موسكو ويريفان لعقود؛ فمن خلال مجموعته الاستثمارية الضخمة "تاشير غروب"، ضخّ أموالًا طائلة في قطاعات حيوية داخل أرمينيا، من الكهرباء والبنى التحتية إلى التعليم والصحة. والأهم من ذلك، أنّه ظل راعيًا أساسيًّا للكنيسة الرسولية الأرمينية، وهي المؤسسة الوحيدة التي ما زالت تحتفظ بعلاقات متينة وعميقة مع روسيا.

الكنيسة ليست تفصيلًا في المشهد الأرميني، بل أحد أعمدة الهوية الجامعة للشعب الأرميني في الداخل والشتات، بل وحتى في الجغرافيا الروسية، حيث يرأس المطران يزراس نيرسيسيان الكنيسة الأرمينية في موسكو، ويحظى بدعم مباشر من شخصيات كبرى مثل كارابيتيان.

إذًا، ضرب سامفيل كارابيتيان هو ضرب مباشر لكل ما تمثله: شبكة المصالح الروسية في أرمينيا، والحضور الروحي الأرثوذكسي العابر للحدود، والامتداد الطبيعي لروسيا في القوقاز.

السلطات في يريفان لم تحاول إخفاء دوافعها، فالحملة جاءت بعد دعم كارابيتيان العلني للبطريرك كاثوليكوس لعموم الأرمن كاريكين الثاني، وفي ذروة النزاع المحتدم بين باشينيان والكنيسة، وبعد أن عبر عن رفضه مسار تقليص الدور التاريخي للكنيسة وتهميشها سياسيًّا.

ما فعله باشينيان، بحسب هذا المنظور، ليس فقط "انتقامًا من رجل أعمال"، بل محاولة مكشوفة لقطع آخر خيط سياسي وروحي واقتصادي يربط أرمينيا بالحليف الروسي

بالنسبة للحكومة الأرمينية، لم يكن كارابيتيان مجرد رجل أعمال، بل ممثلًا لمعادلة لطالما أرعبت السياسيين الجدد: رأس مال ضخم، وتأييد شعبي، وعلاقة وثيقة بموسكو.

إعلان

لكن المفارقة هنا هي أنّ الرجل لم يلوّح في أيّ مرحلة بطموح سياسي مباشر، وكل ما فعله أنه عبّر عن رأيه، ودعم الكنيسة، ودافع عن القيم الأرمينية التي يرى فيها "ضمانة" لمستقبل البلاد.. لكنّ ذلك كان كافيًا في نظر باشينيان، لوضعه في خانة "التهديد الروسي"؛ فالسلطة الحالية لا تنظر إلى موسكو كشريك، بل كحائط يجب هدمه، تمهيدًا للالتحاق التام بالمشروع الأطلسي الذي يُرسم لأرمينيا في الكواليس الغربية.

القلق الروسي بدا جليًّا، حتى وإن جاءت التصريحات الرسمية حذرة في الشكل.. المتحدث باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، أعلن أن روسيا "على اتصال مع الشركاء الأرمن بشأن قضية مواطنها"، فيما أكدت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، أنّ موسكو ستقدّم لكارابيتيان "الدعم القانوني اللازم لضمان احترام حقوقه".

لكن الرسالة الحقيقية صدرت من قلب الأوساط الروسية التي ترى في كارابيتيان رمزًا لـ"أرمينيا الروسية"، أو ذلك النموذج الذي كانت موسكو تراهن عليه لتثبيت نفوذها في القوقاز.

ما فعله باشينيان، بحسب هذا المنظور، ليس فقط "انتقامًا من رجل أعمال"، بل محاولة مكشوفة لقطع آخر خيط سياسي وروحي واقتصادي يربط أرمينيا بالحليف الروسي.

والأخطر من ذلك أنّ الحملة على كارابيتيان ترافقت مع تلويح حكومي بتأميم شركة "الشبكات الكهربائية الأرمينية" التابعة لمجموعته، فيما يشبه ردًّا على كل من تجرأ على الاحتفاظ بعلاقات وثيقة مع موسكو. وأي تأميم في هذا السياق لن يكون اقتصاديًّا، بل خطوة رمزية للقول إن أرمينيا تتجه نحو قطيعة إستراتيجية كاملة مع روسيا، تبدأ من الاقتصاد ولا تنتهي عند العقيدة.

المواجهة إذًا ليست فقط بين كارابيتيان وباشينيان، بل بين رؤيتين لأرمينيا: الأولى تضع روسيا شريكًا طبيعيًّا في الأمن والدين والاقتصاد، والثانية ترى فيها عبئًا على طريق إعادة التموضع في المعسكر الغربي

أوساط أرمينية كثيرة، تحدث صراحة عن "تدبير غربي" وراء اعتقال كارابيتيان، لضرب العلاقة بين موسكو ويريفان. التبعات عمّت كل دولة ذات وجود أرمينيّ، إذ وصلت أصداء التوقيف إلى لبنان، حيث رأى النائب اللبناني هاكوب بقردونيان (الأمين العام لحزب الطاشناق) أنّ ما يحدث ليس مجرد إجراء قضائي، بل هو هجوم على القيم الوطنية والكنسية، وتجريد أرمينيا من هويتها الجماعية. كما لم يكن يوسف دارديان -الخبير اللبناني في شؤون القوقاز- بعيدًا عن هذا التحليل، حين وصف اعتقال كارابيتيان بأنه "خطوة بحت سياسية".

المواجهة إذًا ليست فقط بين كارابيتيان وباشينيان، بل بين رؤيتين لأرمينيا: الأولى تضع روسيا شريكًا طبيعيًّا في الأمن والدين والاقتصاد، والثانية ترى فيها عبئًا على طريق إعادة التموضع في المعسكر الغربي.. والضحية في هذه المعركة قد لا يكون رجل أعمال فقط، بل البيئة الأرمينية نفسها، التي عاشت لعقود على توازنات حسّاسة، قبل أن تقرر السلطة اليوم نسفها، وتوجيه ضربة قاسية ومتهورة لحليف إستراتيجي، لمجرد أنّ رجلًا واحدًا قرّر أن يقول: أنا مع الكنيسة.. ومع روسيا.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان