كان يا ما كان.. أنا وأنت والزمان

كيف تساعدك الكتابة في التعافي من الاكتئاب
الكاتبة: الكتابة ليست مجرد سرد، بل هي مقاومة وذاكرة وإرث (مواقع التواصل الاجتماعي)

وُلدتُ في بيت يتجنب كل من فيه شرب المنبهات، فلم أعهد من أمي إعداد قهوة الصباح أو شاي العصر. ولكن، مع الوقت نقل أخي "عدوى الشاي"، ونقلت أنا "عدوى القهوة" إلى البيت؛ فصرت إذا ما حلّ ضيف يطلب الشاي، أذهب مسرعةً لعقد صفقة مع أخي: "اعمل شاي، ومقابل هذا سأعد القهوة لأصدقائك".

واستمر هذا الحال إلى أن نزحت في الإبادة إلى مطبخ آخر.. إلى بيت فيه سيدة ستينية لا تبدأ يومها إلا بكوب من الشاي، بشرط أن يكون "شديد الحلاوة"!. لم أفهم حينها سبب أنسها به، ولم أدرك انتقال العدوى إليّ إلا بعد عام من الإبادة.

فما رأيك الآن بكوب من الشاي بالنعناع؟ ولكن، اعذرني هذه المرة.. لا يوجد سكر!

ذاكرة من سكر

في صغري، كنت أعتقد أن جدي يمتلك آلةً سحرية؛ تحول السكر إلى غيمة في لمحة بصر! آنذاك، كنت أقف بجانبه، أنتظر دوري في طابور الأحفاد، وعيناي مندهشة مما تريانه. وبذات الدهشة، كنت -بعد وفاة جدي- أقف متأملةً في خالي، في ابن يحاول إحياء ذكرى أبيه.. أقف مستذكرةً لهفة قلبي الصغير، بمجرد رؤيتي غيمتي الملونة!

أذكر أن آخر مرة رأيت فيها مشهد تدافع الأطفال حول بائع حلوى "شعر البنات"، أو "الغيوم الملونة" كما أسميها أنا، كانت أمام مدرستي الابتدائية في مخيم جباليا.

منذ ذلك الحين، اعتقدت أن جميع شبيهات آلة جدي السحرية قد انقرضت! ولكن من المدهش أنه مع انقطاع دخول السكاكر في الإبادة، ودخول السكر بين الحين والآخر، عاد لتلك الآلة مجدها؛ فظهرت الغيوم الملونة مجددًا، وعادت لقلوب الأطفال لهفتها، وعاد صوت المنادي يجوب الشوارع: "شعر بنات.. شعر بنات.. للحلوين وللحلوات"! فصرت كلما سمعت ذاك الصوت، أو رأيت طفلًا يركض خلفه، أبتسم للماضي.

صبغة غزة تميزك عن الجميع؛ تشجع كل من في قلبه مرض على الاستغلال، وسلب أبسط الحقوق منك وإن كنت خارجها؛ فالعالقون بين حدود الأمل واليأس.. كثر!

حبال من الود

يعلو صوت والدتي في المطبخ متسائلة: "في حد عنده أواعي بدهم غسيل؟ بسرعة، جيبوهم!"، ثم يبدأ كل منا في رحلة البحث عن ملابسه في جميع أنحاء البيت، وفي بعض الأحيان تفوض أمي أحدنا لجمع الملابس المبعثرة هنا وهناك.

إعلان

بعد جمعها، تبدأ بفرزها وفقًا لمعايير عدة، منها الألوان ونوع القماش والأولوية؛ فكانت تبدأ أحيانًا بزي كرة القدم لأخي "عمر" الملقب في حارتنا بـ"ميسي"؛ فمن غير المعقول أن يذهب للمباراة بزي غير مجفف، أو قذر! وعلى الرغم من عديدنا، وتقدمنا في العمر، فإنها ما زالت كما هي؛ تبادر في مد حبال الود.

من هنا بدأت علاقتي مع حبال الغسيل؛ فأضع عليها ثقل ما يحمله المرء على جسده، وما يستر به نفسه، وما يختاره من ألوان تعبر عن شخصيته.

من خلال تلك الحبال يمكنك القول: هنا حياة، هنا طفل قد ولد، وهنا ضيف قد حل، وهناك من رحل.. ويمكنك معرفة ما إن كان البيت عامرًا بساكنيه، أم هجره ساكنوه! فمنذ أكثر من عام ونصفٍ، وملابسنا تحاول إيجاد مستقر لها. ولأكثر من عام، غاب زي كرة القدم عن حبالنا، غاب على أمل النجاة بموهبته وحلمه.

ولكن! صبغة غزة تميزك عن الجميع؛ تشجع كل من في قلبه مرض على الاستغلال، وسلب أبسط الحقوق منك وإن كنت خارجها؛ فالعالقون بين حدود الأمل واليأس.. كثر!

عاد الغائب الذي مات أبوه قهرًا عليه، عاد الغائب الذي انتظرته أمه بدموعها.. عاد إلى بيته، وأصبح الإهداء ليس واقعًا فحسب، بل ذكرى تُدق لها المسامير في الحائط؛ لتصبح الشاهد والراوي الوحيد للحكاية بعد غياب أبي

اللوحة الأخيرة

في زنزانة بأحد سجون الاحتلال الإسرائيلي، يجلس شاب على الأرض، يمسك بيده أقلامًا ملونة، وقطعة قماش أحضرتها له أمه في زيارتها الأخيرة.. يرسم على تلك القطعة البيضاء رحلة العائد بعد غياب طويل، يرسم شوقه إلى بيته، إلى وطنه، إلى رؤية الشمس، إلى العصافير وغنائها! إلى كرسي يجلس عليه متأملًا، منتظرًا.. كرسي يختلف عن كرسي التحقيق اللعين!

كان ذاك الشاب والدي، الذي سلبه الاحتلال الإسرائيلي بيت أبيه وجده، ثم سلبه طفولته، وشبابه، وبيته. ومع هذا، كان يحلم بيوم يجتاز فيه حدود الشوق، كان يحلم بأن يتحول الإهداء إلى واقع، وإن كان في الزمن البعيد..

"للذكرى.. متى يا كرام الحي عيني تراكم، وأسمع من تلك الديار نداكم.. إهداء".. ثم؟.. لم يكتب شيئًا سوى التوقيع؛ فالتفاصيل كلها تكمن في اللوحة.

في المستقبل، على باب البيت تزغرد جدتي: "إيوي لا تحسبونا من السجن ذلينا.. إيوي يا بارودنا في كتوفنا وقنابلنا بإيدينا.. إيوي يا باب المدينة عالي.. إيوي وأشرعه بإيدي.. إيوي خلي قليبي يفرح.. إيوي ياما بكن عيني".

عاد الغائب الذي مات أبوه قهرًا عليه، عاد الغائب الذي انتظرته أمه بدموعها.. عاد إلى بيته، وأصبح الإهداء ليس واقعًا فحسب، بل ذكرى تُدق لها المسامير في الحائط؛ لتصبح الشاهد والراوي الوحيد للحكاية بعد غياب أبي.

غاب أبي، وهجَّرنا الاحتلال من بيته، كما هجَّر أجدادنا سابقًا.. وبات حلمُنا يشبه حلم والدي: العودة.. الحرية.. بيت آمن!

عدنا إلى البيت يا أبي بعد غياب لم نملك فيه رفاهية الغياب، وانتشلنا الحكاية من تحت أنقاض الغرفة. أما العصافير، فقد عادت بعد قرابة شهر من وقف إطلاق النار المؤقت، ولكن.. لم يدم هذا طويلًا؛ فقد عادت الإبادة يا أبي، وعادت معها هجرة البشر والعصافير.. إلى روح وريحان وجنة نعيم.

أكتب لك يا صغيري عن حكايات لم تكتمل، وعن أصوات فقدت صداها؛ فالكتابة يا صغيري، ليست مجرد سرد، بل هي مقاومة وذاكرة.. وإرث

إلى صغيري

بقيت لأكثر من عشر سنوات أقرأ الكتب، وأشتريها من مصروفي الشخصي؛ لأكون أمًّا تحضر لك مكتبةً قبل أن تحضر، أمًّا تمنحك عالمًا من القصص قبل أن تولد، أمًّا تؤمن أن الحكايات تربي كما تفعل القلوب.

إعلان

بعض الكتب اشتريتها مع زميل لي من "أمازون"، وانتظرنا وصولها على أحر من الجمر، وبعضها أوصيت أصدقائي لتأمينها من مصر، والأكثر -بالطبع- من هنا.. من غزة. القليل منها نسخ أصلية، ومعظمها بجودة طباعة معتبرة، وبأسعار تناسب طالبةً في الثانوية والجامعة.. أما أقدمها وأقيمها فكتابان لجد والدي، نجا بهما من قريته في نكبة عام 1948م، ثم مات بغزة لاجئًا!

وددت لو استطعت الهرب ولو بكتاب واحد؛ ولكن.. اعذرني، فقد أُحرِقت جميعها!

أما ذاك الزميل الذي حدثتك عنه، فقد قتله الاحتلال، وأولئك الأصدقاء سافروا، وبتعبير أدق: هجروا من ضيق الحال، وبعضهم ما زال ينتظر.

لذلك، قررت الكتابة.. عن تفاصيل يجهلها كثيرون، وعن أحلام أُجهضت.. عن صديقتي التي تشاركني ذات الاسم، والكثير من الطباع: "سمية"، التي حرمت من وداعها الأخير.. عن فتاة لم ترَ عائلتها طوالَ سبعة أشهر، عن حلمها بإنجاب طفل! ولكن.. قتلها الاحتلال ليلة العيد، وبقي حلمها وآخر ذكرياتها عندي.. عدت بها إلى أمها دون أن تكون هي معي.. اعذريني يا خالتي، عدت دون عيدي!

أكتب لك يا صغيري عن حكايات لم تكتمل، وعن أصوات فقدت صداها؛ فالكتابة يا صغيري، ليست مجرد سرد، بل هي مقاومة وذاكرة.. وإرث.

أكتب.. لأن الصمت قاتل.

أكتب.. لئلا تُسرق حكايتي، وحكايات الأصدقاء، والآباء، والأجداد.

ولكن، إذا كان لا بد أن أموت..

‏"إذا كان لا بد أن أموت، فلا بد أن تعيش أنت؛ ‏لتروي حكايتي! إذا كان لا بد أن أموت، فليأتِ موتي بالأمل.. فليصبح حكاية".

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان