لقد برز هذا السؤال الجدلي: "أنحتاج أولًا إلى تحقيق الديمقراطية الاقتصادية أم الديمقراطية السياسية؟"، خاصة بعد ما يسمى بالربيع العربي، وما شهدته معظم الدول العربية من تراجع اقتصادي وأزمات إنسانية أثرت على المستوى المعيشي للمواطن؛ فبتنا نشاهد كيف أن العامة بدأت تُلقي باللوم على عاتق النخب السياسية التي جاءت بعد الثورة، محمّلة إياها وزر تردي الأوضاع الاقتصادية، وغير ذلك من ضياع للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، التي ذهبت ضحية تكريس "حقوق سياسية ومدنية لا تُسمن ولا تُغني من جوع"، بل أصبحت نقمة على المواطن بدل أن تكون نعمة تعود عليه بالنفع.
ما الفائدة من إرساء ديمقراطية سياسية لا تعود بالفائدة على غالبية الشعب الملامس أصلًا لخط الفقر، وتهميش الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين؟
المفكر جوزيف مسعد يعزو هذه المسألة في كتاباته إلى ما يسميها بالجهات التي اختطفت الانتفاضات العربية، وحوّلت مسارها من أجل تحقيق أجندات غربية، متبنية خطابًا ليبراليًّا يركز بالأساس على الحقوق السياسية، ويتناسى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية من تعليم وصحة ومحاربة للفقر، كل ذلك من أجل استجداء الاعتراف من المنظومة الغربية الليبرالية والنسج على منوالها.
إذ عُرف هذا النوع من الديمقراطية، الذي نادت به النخب الليبرالية، بأنه تبني النموذج السائد في الدول الرأسمالية التي تسيطر عليها الشركات، وهذه الديمقراطية تعني بالأساس الانتخابات السياسية والحقوق السياسية، وتتجاهل القرارات المتعلقة بأهم القضايا التي تؤثر على حياة الشعوب بشكل مباشر، كالغذاء والمسكن والعمل والصحة والتعليم والثروة.
وعلى النقيض من ذلك، فإن أساس الديمقراطية الاقتصادية التي يدعو لها مسعد، كبديل عن الديمقراطية السياسية الليبرالية، هو حق المواطنين في التحكم بالتوزيع العادل والمتساوي لثروة البلاد فيما بينهم، وليس فقط توزيعها بين القلة غير المنتخبة، أو حتى المنتخبة، من الطبقات الثرية غير العاملة، والتي بدورها تدير الاقتصاد بطريقة دكتاتورية.
وهذا يذكرنا بأن المطالب الأساسية والشعارات التي رُفعت في بداية الانتفاضات الشعبية في تونس ومصر، كانت بالأساس شعارات ومطالب اقتصادية واجتماعية تطالب بالخبز والكرامة، ثم ركبت عليها النخب الليبرالية التي وصلت إلى الحكم فيما بعد، وذلك بتماهيها مع قيم وشعارات الديمقراطية الغربية، فأرست نظامًا سياسيًّا يحمي مصالح رجال الأعمال والنخب البرجوازية، وهذا لم يعد بأي فائدة تُذكر على المواطنين المطالبين بالخبز والكرامة.
وهنا يتبدى لنا السؤال الأهم: ما الفائدة من إرساء ديمقراطية سياسية لا تعود بالفائدة على غالبية الشعب الملامس أصلًا لخط الفقر، وتهميش الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين؟ إذ يرى مسعد أنه مع انحسار الاستعمار الرسمي في أعقاب الحرب العالمية الثانية، تبلور لدى غالبية قادة دول الجنوب الذين قادوا حركات التحرر الوطني وعيٌ بأن الاستقلال السياسي، في حد ذاته، يظل ناقصًا ما لم يُستكمل بتحرر اقتصادي فعلي، يُنهي أشكال التبعية التي تفرضها النيوليبرالية الاستعمارية، أو ما يُعرف بالاستعمار الجديد.
فالثورة الصناعية التي مهدت لظهور الرأسمالية، احتاجت إلى ظاهرة الاستعمار بشتى أنواعها، من أجل توسيع رقعتها التجارية، وبيع سلعها للشعوب الأكثر فقرًا، ونهب مواردها الطبيعية. هذا الرابط العضوي، وهذه العلاقة المتلازمة ما بين الرأسمالية والاستعمار، لا يزالان حاضرين في واقعنا السياسي اليوم.
لم يكن من المستغرب أن تحارب القوى الغربية كل نظام يسعى لإرساء ديمقراطية اقتصادية لشعبه، وذلك بدءًا من العدوان الثلاثي على مصر بعد تأميم عبدالناصر قناة السويس، مرورًا بمحاربة العراق وتدمير سوريا، كل ذلك من أجل منع أي محاولة لإحلال الديمقراطية الاقتصادية
وفي ذات الصدد، ومن أجل مواصلة سيطرتها على دول الجنوب حتى بعد نيلها استقلالها السياسي، سعت هذه القوى الكولونيالية إلى ترسيخ أنظمة وظيفية عميلة لها في مستعمراتها السابقة (الوطنية الأليفة عند تميم البرغوثي)، والتشجيع على العولمة في ظل نظام عالمي اقتصادي محكوم بالشركات العابرة للقارات، قائم على تبعية دول الجنوب اقتصاديًّا له عبر البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، واعتماد سياسات التقشف الاقتصادي، وإلغاء القيود، وتحرير التجارة، وخصخصة الأصول العامة وثروات الشعوب.
لقد حذّر كوامي نكروما في كتابه الشهير "الاستعمار الجديد: آخر مراحل الإمبريالية" من أن جوهر الاستعمار الجديد هو استقلال نظري للبلاد التي طُبق نظامه فيها، وسيادة دولية بكل مظاهرها، أما نظامها الاقتصادي ودفتها السياسية فيُوجَّهان من الخارج.
وفي الاستعمار الجديد، يُستخدم رأس المال الأجنبي في استغلال البلاد المتخلفة أكثر مما يُستخدم للنهوض بها؛ فالاستثمار في ظل الاستعمار الجديد يعمل على توسيع الهوة -لا تضييقها- بين الدول الغنية والدول الفقيرة.
وبالتالي، الاستعمار لم ينتهِ، بل تغيّر شكله، ومن دون هذا التحرر الاقتصادي تبقى الدول الناشئة واقعة تحت سلطة الهيمنة الاقتصادية للإمبريالية العالمية، ما يعوق بناء نماذج وطنية مستقلة للتنمية.
ومن هذا المنطلق سعى زعماء، مثل جمال عبد الناصر وغيره، إلى ترسيخ أسس استقلال اقتصادي مصحوب بمشروع ديمقراطي تنموي، يقطع الطريق مع التبعية ويعزز السيادة الوطنية.
لو لم تستبعد الولايات المتحدة الجانب الاقتصادي من تعريفها للديمقراطية، لتمّ وضعها هي نفسها على رأس منتهكي حقوق الإنسان؛ بسبب حرمان شعبها من الرعاية الصحية المجانية الشاملة
لذلك، لم يكن من المستغرب أن تحارب القوى الغربية كل نظام يسعى لإرساء ديمقراطية اقتصادية لشعبه، وذلك بدءًا من العدوان الثلاثي على مصر بعد تأميم عبد الناصر قناة السويس، مرورًا بمحاربة العراق وتدمير سوريا، كل ذلك من أجل منع أي محاولة لإحلال الديمقراطية الاقتصادية في العالم الثالث.
فضلًا عن ذلك كانت معارضة هذه القوى النيوكولونيالية لتحقيق الديمقراطية السياسية في جميع أنحاء دول الجنوب، نتيجة خوفها الواقعي من انتصار الأحزاب المعادية لها أيديولوجيًّا، أو تلك الملتزمة بالديمقراطية الاقتصادية.
أما على صعيد النظام القانوني الدولي، الذي تم إرساؤه حصرًا من أجل خدمة المصالح الإمبريالية والغربية، وشرعنة نهب شعوب الجنوب، فنجد أنه لم يحفل بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية للإنسان.
فالذي يطلع على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، سيجد أنه مجرد إعادة طرح لمفهوم حقوق الإنسان من المنظور الليبرالي الفرداني الغربي، بشكل يتغافل عن أي حقوق اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية، بل ويجعل الفلسفة الغربية الليبرالية هي اللوغوس (logos) المركزي الذي يجب أن تدور في فلكه جميع مفاهيم حقوق الإنسان الأخرى وتفرعاتها.
وكذلك هي مؤسسات هذا النظام العالمي، سواء الاقتصادية أو السياسية منها، وهي ذاتها التي شرعنت لاحتلال العراق وأفغانستان، وكرّست لفقر الشعوب ونهب ثرواتها.
ولذلك، لم يعد هنالك مناص من الاعتراف بأن مفهوم حقوق الإنسان في صيغته الغربية ليس إلا وسيلة من وسائل الكولونيالية الجديدة. وفي ذات السياق، يقول جوزيف مسعد إنه تماشيًا مع الاقتصاد الرأسمالي النيوليبرالي، فإن تعريف الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لحقوق الإنسان يستبعد -بالطبع- الحقوق الاقتصادية تمامًا، بينما تقوم أدواتهما الاقتصادية الرئيسة، كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، بالتسبب بالفقر المدقع في جميع أنحاء العالم.
وذلك أنه لو لم تستبعد الولايات المتحدة الجانب الاقتصادي من تعريفها للديمقراطية، لتمّ وضعها هي نفسها على رأس منتهكي حقوق الإنسان، بسبب حرمان شعبها من الرعاية الصحية المجانية الشاملة، والتعليم العالي المجاني، والحق في العمل، والحق في السكن. ومثل هذه الأمور "الهامشية" لا تجد أي حيز لها في سردية منظمات حقوق الإنسان الغربية لما تسميه "حقوق الإنسان".
الديمقراطية السياسية في ظل الهيمنة الرأسمالية ليست سوى امتداد للاستعمار الجديد، وهي تحوّل المواطن إلى متفرج في مسرح النهب، بينما تختزل حقوقه في بطاقة اقتراع لا تُطعم خبزًا
وفي إطار استخدام هذا المفهوم كسلاح أيديولوجي ضد دول الجنوب، الساعية إلى تحقيق الديمقراطية الاقتصادية والاستقلال الوطني، عملت الدول الغربية على ترسيخ هذا الخطاب الكولونيالي من خلال إنشاء آلاف المنظمات غير الحكومية، الممولة والمدارة غربيًّا، والتي تولّت دور "المجتمع المدني" محل المنظمات الشعبية والسياسية والعمالية المحلية.
وقد تميز نشاط هذه المنظمات بالتركيز على إدانة انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبتها الأنظمة المناهضة للاستعمار، تلك التي كانت تطالب بالعدالة الاقتصادية، بينما التزمت الصمت إلى حدّ كبير تجاه السياسات النيوليبرالية للأنظمة التي خلفت تلك الحركات، رغم ما صاحبها من انتهاكات جسيمة للحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين.
وبذلك، تتحول الديمقراطية القائمة على النموذج الغربي في عالمنا العربي إلى مجرد مسرحية، تهدف إلى ترسيخ نهب وتفقير الشعوب.
ولكن ما ذكرناه لا يعني أننا لا نولي أهمية لحقوق المواطنين في الحرية والخلاص من الاستبداد، بل أن الأَولى على الدول أن تقوم ببناء دولة الرفاه الاجتماعي بالقضاء على الجوع والفقر، والتحرر من الهيمنة الاقتصادية الغربية، وحينها يمكن للشعوب أن تحقق استقلالية قرارها السياسي، وبناء ديمقراطية سياسية تكاملية مع الديمقراطية الاقتصادية التي ستمهد الطريق للأولى.
هكذا تتعمّق المفارقة التاريخية، فبينما تُرفع شعارات الديمقراطية السياسية كطوق نجاة للشعوب، تتحول في ذات الوقت إلى أداة لتدجينها وإخضاعها لمنطق الهيمنة النيوليبرالية.
فالمسألة ليست مجرد اختيار بين ديمقراطية اقتصادية وأخرى سياسية، بل هي صراع وجودي ضد نظام عالمي يصنع "ديمقراطيات معدومة الجوهر"، تزيّن الواجهة بالانتخابات والحريات الفردية، بينما تُفرَغ الداخل من أي مضمون تحرري.
إن الديمقراطية السياسية في ظل الهيمنة الرأسمالية ليست سوى امتداد للاستعمار الجديد، وهي تحوّل المواطن إلى متفرج في مسرح النهب، بينما تختزل حقوقه في بطاقة اقتراع لا تُطعم خبزًا.
وهنا تتجلى الضرورة الملحة لإعادة تعريف الديمقراطية من جذورها ككُلٍّ لا يتجزأ، باعتبارها سيادة سياسية لا تصادر قرار الشعوب، وعدالة اقتصادية تعيد توزيع الثروة، ومقاومة شاملة لآليات الاستعمار المعاصر التي تتخفّى خلف خطاب إنسانوي زائف.
هنا، بالضبط، يتجاوز الصراع من أجل الديمقراطية الاقتصادية مجرد كونه خيارًا فكريًّا ليصبح شرطًا وجوديًّا للبقاء.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.