ليست الفتنة في النظام السنني مجرد حادث عابر أو اضطراب عارض، بل هي ناموس إلهي جارٍ، وسنة ربانية ماضية، تصيب الناس كما يصيبهم الليل والنهار، وتديرها يد الحكمة الإلهية لتحقيق غايات أعمق من أن يدركها عقلنا المجرد.
يقول الله تعالى: {أحسب الناس أن يُتركوا أن يقولوا آمنَّا وهم لا يُفتنون} [العنكبوت: 2]؛ فليست الفتنة اختبارًا للإيمان فحسب، بل هي شرط لازم لكمال بلوغه وتثبيته.
ما أحوجنا إلى فقه سنني يقرأ الفتنة لا كأزمة عابرة فقط، بل كابتلاء تزكوي ومرشح تنقية، وفرصة لإعادة النظر في أنفسنا كأمة قبل أن ننشغل بخصومنا، وميزان نزن به مواقفنا ومناهجنا
إن الفتنة في ضوء السننية ليست حدثًا اعتباطيًّا يقع بلا غاية، بل هي مخلوق بأمر الله، تجري وفق نظام دقيق يختبر به اللهُ القلوب، ويغربل به الصفوف؛ فليست الفتنة مجرد أزمة، بل هي أشبه بـ"حجر اللمس" الذي يُجرّ عليه المعدن ليُختَبر نقاؤه ويُعرف عياره؛ تحتك بها النفوس لا لتنكسر، بل ليُكشف ما فيها من صدق أو نفاق، من ثبات أو اضطراب، من صفاء الجوهر أو غش المظهر.
وأقسى الفتن تلك التي تتسلل في دهماء غفلتنا إلى جسد الأمة، فتنخر في بنيانها وتفكك أوصالها، وهي لا تأتي صريحة بل متخفية في لبوس الغيرة على الدين أو الانتصار للمبدأ، بينما حقيقتها أنها امتحان للثبات، وكشف لخلل في التصور أو اضطراب في الإرادة.
الفتنة سنة ربانية تحمل في طياتها رسائل متعددة: فهي تمحيص وتمييز، وتنبيه وردع، وتصحيح وتقويم، وتعبيد للطريق نحو التمكين، وهي اختبار لمراتب الصبر ومقام الاصطفاء.
وقد يطول زمن الفتنة أو يقصر، وقد تشتد أو تخف، بحسب الوعي الجمعي للأمة والتيقظ لها، وقدرة تعاملها مع عللها وأسبابها، فإن أحسنت فهم نظامها وفك شفرتها كانت الفتنة كاشفة لا مدمرة، باعثة على النهوض لا سببًا في الانهيار.
فما أحوجنا إلى فقه سنني يقرأ الفتنة لا كأزمة عابرة فقط، بل كابتلاء تزكوي ومرشح تنقية، وفرصة لإعادة النظر في أنفسنا كأمة قبل أن ننشغل بخصومنا، وميزان نزن به مواقفنا ومناهجنا، لئلا نكون من الذين يساقون في تيارها دون بصيرة، أو يكونون وقودًا لها من حيث لا يشعرون!
"الوعي السنني" لا يعني الحياد البارد ولا الانسحاب الجبان، بل يعني ألا نزج أنفسنا في معارك بلا تبصر، ولا نكون أداة في يد من يحسن إدارة الفتنة أكثر مما نحسن فهمها، فالمواقف المعاصرة الرشيدة ليست تلك التي ترفع الصوت أكثر، بل تلك التي تقرأ اللحظة جيدًا، وتقدر المآلات
في زمن الفتن الكبرى، لا شيء أخطر على الوعي الجمعي من الدخول في معارك صفرية، لا ناقة له فيها ولا جمل إلا ترف التنظير؛ حيث يحتدم الصراع في غير ميدانه، وتُشعل ناره في غير عدوه، وكثير منها يدار عبر منصات الإعلام ووسائل التواصل، وتُنفخ فيها نار الاصطفافات حتى تغدو في عيون الناس وكأنها المعركة الحقيقية، بينما العدو الحقيقي يراكم مكاسبه على موائد صمتنا وانقسامنا.
وفي ظل هذا المشهد الملتبس؛ يصبح فقه التعامل مع الفتن ضرورة فكرية وسلوكية ملحة، لا ترفًا معرفيًا.
ولنا في مواقف كبار الصحابة الذين عاشوا زمن الفتن الكبرى عِبر شاهدة على عمق فقههم وبصيرتهم في التعامل معها؛ فهذا الزبير بن العوام، رضي الله عنه، وقد كان من العشرة المبشرين بالجنة، وأحد أوائل من أسلموا، لم يكن جبانًا ولا عاجزًا عن خوض المعارك، بل فارسًا شجاعًا.. ومع ذلك، لما تبين له أنه يسير نحو مواجهة قد يختلط فيها الحق بالباطل، وكان ذلك في فتنة الجمل، رجع القهقرى وقال: "إن هذا الأمر لا أقاتل فيه، لقد ذكرني عليٌّ بحديث سمعته من رسول الله ﷺ: لتقاتلنه وأنت له ظالم"! فانصرف وكف يده، وفضل الاعتزال على أن يكون طرفًا في دم مشتبه.
هذا الوعي النبوي السنني جعله ينسحب من مشهد الفتنة، ويمتنع عن صب الزيت على النار، لأنه أدرك أن الفتنة لا تعالج بالحد القاطع دائمًا، بل أحيانًا بالصمت والاعتزال حتى تنجلي، خاصة إذا كانت مظنة شقاق الأخوّة.
وهنا تكمن العبرة: أن الفتنة ليست لحظة انتصار لخطابك أو اصطفافك، بل اختبارًا لبصيرتك وقدرتك على الإمساك بالحق، دون أن تسهم في سفك الدم أو تمزيق الأمة، أو تأجيج النزاعات باسم الانتصار للحق وللمبدأ.
إن "الوعي السنني" لا يعني الحياد البارد ولا الانسحاب الجبان، بل يعني ألا نزج أنفسنا في معارك بلا تبصر، ولا نكون أداة في يد من يحسن إدارة الفتنة أكثر مما نحسن فهمها، فالمواقف المعاصرة الرشيدة ليست تلك التي ترفع الصوت أكثر، بل تلك التي تقرأ اللحظة جيدًا، وتقدر المآلات، وتفرق بين التوقيت المشروع والفخ المنصوب، وبين من يستنصر للحق، ومن يستثمر في ناره.
فالوعي السياسي الجماهيري لا يعني تبرئة من له مواقف خاطئة، ولا يعني شيطنة من نختلف معه، بل أن نحسن ترتيب الأولويات، وأن نفرق بين ساحة النقد وساحة المعركة؛ فكل معركة وهمية تؤجج هي طعنة في خاصرة الأمة، وتفكيك لجبهتها الداخلية، وأن الفلاح أحيانًا يكون في كف اليد والتزام الصمت.
ليس المطلوب أن نطبل لأحد، ولا أن نخاصم كل من خالفنا، بل أن نحفظ بوصلة الوعي متجهة نحو الحق والعدالة، لا تتيه في دوامة الشعارات والانفعالات، فلماذا نستنزف أنفسنا في حصر الحق كل الحق في ضفتنا، وننهمك في إثبات شرعية موقفنا، حتى لو كان ذلك على حساب سحق الرأي الآخر وشيطنته، في حين يتحمل الأمر الاجتهاد والرأي والرأي الآخر؟!
في زمن الفتن، لا تقاس البطولة بكثرة الصخب، ولا يوزن الحق بشدة الاصطفاف، بل بالبصيرة.. فكونوا زبيريين إذا اختلطت الأصوات، أصغوا لصوت النبوة في أعماق ضمائركم
أليس من الحكمة أن نفرق بين من يخطئ في التقدير والاجتهاد، وبين من يناوئ القضية من أصلها؟ فقد فرقت شريعتنا الغراء نفسها في الأحكام وطرق التعامل بين الكافر الأصلي وبين الباغي الذي خرج بتأويل، ولم تضعهما على مسافة واحدة من الأحكام.
إننا حين نحصر الصواب في مسار واحد، ونجعل من الاختلاف تهديدًا، نسهم دون أن نشعر في تفكيك الصف، وتآكل الوعي، وتبديد الطاقات في معارك لا جبهة لها.
وفي خضم هذه المعارك الوهمية، نغفل أحيانًا حقيقة مهمة جدًا: أن كثيرًا من هذه الخلافات والاصطفافات لا تتعدى أن تكون رمزية في الموقف أو عاطفية في التصريح، لا هو دعم مالي يحدث فرقًا وأثرًا فعليًا، ولا دعم لوجيستي يغير موازين القوة، ومع ذلك، يبنى عليه خلاف وانقسام عنيف، ويعاد تشكيل الولاءات والعداوات، وكأن المعركة كلها باتت في كلمات لا في أفعال.
ومن وعى هذا البعد السنني اليوم، أدرك أن كثيرًا من الاصطفافات في عصر الأزمات، كالصراعات الراهنة في العالم الإسلامي، لا تتجاوز رمزية التأييد، بينما لا تغير واقعًا ولا تحقن دمًا؛ فالحكمة ألا نُستنزف في معارك وهمية نشيطن فيها بعضنا دون وعي بمآلاتها، ونتعامى عن الفتنة الأصل التي تدور في الخلفية.
في زمن الفتن، لا تقاس البطولة بكثرة الصخب، ولا يوزن الحق بشدة الاصطفاف، بل بالبصيرة.. فكونوا زبيريين إذا اختلطت الأصوات، أصغوا لصوت النبوة في أعماق ضمائركم، وقفوا حيث وقف الزبير، حين تذكر الحديث وانحاز للبصيرة بدل الحماسة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.