يعدّ التبرع بالدم من أجمل صور التكافل الاجتماعي، حيث يجسّد هذا الفعل النبيل روح إنسان ملهوف لإنقاذ أرواح قد لا يعرفها، ولم يجمعه بها زمن ولا مكان.
وفي جوهره، يثري التبرع الروح سلامًا ونقاءً وصفاءً، فيمنح المتبرع شعورًا عميقًا بلذة مختلفة، لذة لا تشبه غيرها، تلامس النفس وتُطمئن الجسد، ويصعب على أي كان وصفها بدقة، لأنها خليط متداخل بين السعادة والمشاركة ورفع الأذى وطلب الخير في الدنيا والنعيم في الآخرة.
هذه اللذة لا تولد من لحظة عابرة، بل من مسار روحي يبدأ بالنية، حيث يغدو التبرع جزءًا من هوية المتبرع، وموسمًا يستعدّ له سنويًّا، فيرتّب له من وقته، ويضبط له نومه وغذاءه، ويلتزم بالشروط الصحية.
ثم ينتقل إلى مرحلة العزم، حين يتوجّه إلى المستشفى أو المركز الصحي، ويقدّم بياناته ويخضع للفحوص اللازمة، ليعيش بعدها مرحلة المكافأة، تلك اللحظة التي يشعر فيها بامتياز العطاء ونعمة الإنقاذ، أن تكون معطيًا لا آخذًا، سببٌ في عودة روح إلى أسرتها، وحياة إلى مسارها.
على المستوى النفسي، يمنح التبرع شعورًا بالرضا والسلام والامتلاء المعنوي. أما جسديًا، فهو يساعد في تنشيط الدورة الدموية، وتحفيز إنتاج خلايا دم جديدة، ويسهم في تحسين وظائف الكبد، ويعزّز صحة القلب
كن صديقًا وفيًّا لبنوك الدم
إن بنوك الدم بحاجة دائمة للتبرعات الدورية، بمعدّل مرة واحدة كل ثلاثة أشهر على الأقل، لتكون قادرة على الاستجابة الفورية لأيّ مريض بحاجة ماسّة، خاصةً ضحايا الحوادث والإصابات البليغة.
وإن من واجبنا الإنساني أن نضع بناء علاقة مستمرة مع هذه البنوك في قائمة أولوياتنا، علاقة تأخذ في الاعتبار صحة المتبرع وتاريخه الطبي، لكنها تمنح في المقابل فوائد لا تحصى، على الصعد؛ النفسية، والجسدية، والدينية، والاجتماعية.
فعلى المستوى النفسي، يمنح التبرع شعورًا بالرضا والسلام والامتلاء المعنوي. أما جسديًا، فهو يساعد في تنشيط الدورة الدموية، وتحفيز إنتاج خلايا دم جديدة، ويسهم في تحسين وظائف الكبد، ويعزّز صحة القلب، ويقلل من خطر الإصابة ببعض الأمراض المزمنة.
وتشير دراسات عديدة إلى أن التبرع المنتظم يحدّ من احتمالات الإصابة بأمراض القلب وسرطان الدم. أما من الناحية الدينية، فيتجسّد المعنى الأسمى في قول الله تعالى: ﴿ومن أحياها فكأنَّما أحيا النًّاس جميعًا﴾. وفي البعد الاجتماعي، ينمّي التبرع خصال الخير والتعاون في الشخصية، ويعزّز روابط المجتمع، خاصة حين يكون المتبرع معروفًا لدى المستفيد.
العطاء في وجه الفردانية
إن التبرع بالدم في ذاته دلالة راقية على البذل غير المشروط، لا سيّما في زمن اجتاحت فيه الأنانية أطراف الحياة، وطغت فيه مفاهيم الجشع والطمع وحب الذات والفردانية، حتى صار بعض الناس لا يُقدم على فعل إلا إذا كان له فيه مقابل مادي واضح.
ولكن لو ذاق هؤلاء طعم المقابل النفسي اللامرئي، لأدركوا أن ما يجنيه القلب أعظم مما تناله اليد، وأن اللحظات التي نمنح فيها غيرنا -دون شرط- هي أثمن ما نملكه في أعمارنا.
أنا أُوْمن بأن الإنسان يحمل في فطرته ميلًا طبيعيًّا للعطاء والمساعدة، وأن الاجتياحات الطارئة للفكر المادي لا تستطيع طمس هذا الأصل النبيل.
إن التبرع بالدم ليس سوى صورة من صور الإقراض المعنوي، يعود بها الدهر إلينا يومًا ما، في صورة رزق غير متوقّع، أو دعوة في الغيب، أو نجاة في وقت لم نكن نعلم حاجتنا إليه. والحياة، كما نعلم، لا تكشف أسرارها إلا لمن يحسن النية، ويزرع المعروف لوجه الله.
التكافل الاجتماعي عملية تراكمية، لا تذهب فيها الأفعال سدى، بل تدور، وتعود، وتثمر لمن بدأها.
إن نشر الوعي حول أهمية التبرع، وتحفيز المجتمع لبناء شبكة من المتبرعين الدائمين، مسؤولية أخلاقية وإنسانية، تضمن ألا يبقى أيّ مريض في انتظار كيس دم ينقذ حياته
مسك الختام
إن القدرة على التبرع بالدم نعمة عظيمة تستحق الشكر، وليس هناك شكر أعظم من أن توظّف هذه النعمة في إنقاذ الأرواح ومساعدة الآخرين، تحقيقًا لمعنى الأخوة الإنسانية، وترسيخًا لروح التكافل، وترجمةً فعلية للإحسان.
لهذا، فإن نشر الوعي حول أهمية التبرع، وتحفيز المجتمع لبناء شبكة من المتبرعين الدائمين، مسؤولية أخلاقية وإنسانية، تضمن ألا يبقى أيّ مريض في انتظار كيس دم ينقذ حياته.
فهذا الجدار الصحي لا يبنى إلا بجهد جماعي، ووعي دائم، ونية خالصة لوجه الله، تتجاوز كل الماديات والمصالح الفانية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.