غزة.. بقلم صحافية!

مجزرة في حي الصبرة بمدينة غزة في اليوم الثاني من ايام عيد الاضحى المبارك
الكاتبة: كيف صمد هؤلاء كل هذا الوقت؟ كيف ثبتوا زهاء العشرين شهرًا من الألم والمآسي؟! (الجزيرة)

ليس سهلًا على فتاة اختارت أن تكون قويةً في كل استحقاق أن تكتشف في أعماقها مكامن الخوف التي خلفتها طبول الحرب، التي بقيت تدق على مدى أكثر من عام ونصفٍ.

في كل صباح، تدخل مكتبها، تتابع أخبارَ غزة التي لا تنتهي: أحداثًا حمراء مضرجة بالدماء، ودموعًا تسيل من الشاشات كأنما هي نهر بلا ضفاف، وعدادًا يرتفع، ونحيبًا يعبر من غزة إلى لبنان عبر الأثير، ومنه إلى كل العالم بلا حدود ولا قيود ولا هوامش.

خبر عاجل ونشرة أخبار.. قصف مميت يتنقل وبيان إدانة يتيم.. وصاروخ باليستي قادم من اليمن أطلق عليه اسم "فلسطين"، هي وجبة دسمة ليوم طويل، تنتظر أن ينتهي بخبر عاجل تعلن فيه مذيعة شقراء مطبعة نبأ اندحار الاحتلال

تنتظر العنوان الساخن من مديرها، وتبتلع الخبر الذي سيتحول بعد قليل إلى نص يحبس أنفاس القراء.. تفكر أنها بحاجة إلى اختيار صورة عميقة بحجم الفاجعة، وجملة افتتاحية تمهد لحكاية موجعة جديدة.

تدرك أن الكتابة عن القصف المتواصل والقتل باتت عبئًا يتكرر كل يوم، وأن الطفل الذي يصرخ من تحت الركام لن يسكت في ذاكرتها. تسابق الوقت لتنقل التفاصيل، وتخبّئ بين السطور وجعًا شخصيًّا لا يمكن أن يذاع.

خبر عاجل ونشرة أخبار.. قصف مميت يتنقل وبيان إدانة يتيم.. وصاروخ باليستي قادم من اليمن أطلق عليه اسم "فلسطين"، هي وجبة دسمة ليوم طويل، تنتظر أن ينتهي بخبر عاجل تعلن فيه مذيعة شقراء مطبعة نبأ اندحار الاحتلال، بعد اقتحام الجيوش العربية كل الحدود، وفك الحصار، ودخول قوافل الصمود، وعودة الأهالي الذين أتعبهم النزوح، وحمل حقائب الذكريات إلى بيوتهم.. لكن النبأ لم يأتِ بعد.

وبالانتظار.. تقرير واحد كان كفيلًا بأن تنتمي قلبًا وروحًا إلى غزة! هناك ما يقارب 400 تقرير آخر، شاهدت من خلالها جنازات، وتشييعًا، ومآتم لآلاف الشهداء، بحثت مع الأطفال عن ألعابهم التي بترت القذائف أطرافها تحت الركام.. تقارير أدخلتها إلى خيام الهاربين من الموت إلى موت أبشع، عايشت أنين الجائعين الذين يسكنون على قارعة الموت، وهم يزحفون تحت الشمس إلى أقرب تكية.. فتصيبها أصوات أواني الطعام الفارغة بالصداع، وأزيز القصف بالذعر حتى الهذيان من صمت يلف العالم.

هي غزة الألم والأمل.. التي لا تنكسر؛ فعظامها كأغصان زيتون، ودماؤها رائحة غار، وفي قلبها مقام شهيد يحبو نحو الحرية، على ركبتي الزمن

وما بين تقرير وآخر، تمسك القلم كأنها تمسك نبض المدينة، تتلمس جراحها، تكتب بدمعها، لا بحبر عابر.. تسهر على حروف لا تنام، وتسائل الصور التي تصلها: هل مات هذا الطفل فعلًا؟ هل ستنجو شقيقته من بين الأنقاض؟ هل أكل الأطفال وجبة العشاء؟ ماذا عن محمد وسوسو الصغيرة وريم وليان؟ ماذا عن حجارة غزة وكل ما فيها؟

إعلان

وتسأل: كيف صمد هؤلاء كل هذا الوقت؟ كيف ثبتوا زهاء العشرين شهرًا من الألم والمآسي؟! لا بد أن قوةً إيمانيةً عظمى تحرك أرواحهم، وأن نورًا داخليًّا لا ينطفئ يضيء لهم الطريق في ظلام الحرب القاتم.

رحلة مؤلمة هي، لكنها مملوءة بالمسؤولية: تشاهد، تنقل، توثق، تحكي، وتعاني معهم.. تحيي بقلمها أو بأزرار هاتفها وبشاشة حاسوبها أصواتهم، وتحاول أن تمنحهم صوتًا آخر في وجه الصمت العالمي، رغم التعب ورغم الألم.

لكنها في كل مساء، حين تخلع عنها معطف القوة وتسدل الستائر على يوم آخر من المجازر، تجد نفسها تنهار أمام طفل أضاع أمه، ورضيع لا يجد الحليب، ومريض لم يضمد جرحه بعد، وأم أثكلها الفقد!

هي غزة الألم والأمل.. غزة التي لا تنكسر؛ فعظامها كأغصان زيتون، ودماؤها رائحة غار، وفي قلبها مقام شهيد يحبو نحو الحرية، على ركبتي الزمن.. من الأمس وحتى تختم الرواية!

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان