خلال أعوام خلت، بنت الجمهورية الإسلامية في إيران -أو دعمت- دوائر نار أحاطت بإسرائيل من خاصرتها: من غزة والضفة إلى لبنان، واليمن، والعراق. وقد كانت لهذه الدوائر أهداف متعددة، أولها حماية إيران الثورة عند الحاجة، إضافة إلى الهجوم عند لحظة الصفر، وتأسيس نفوذ إقليمي ودولي على غرار ما تفعله الدول المتوسطة والكبيرة في هذا العالم.
في لحظة الحقيقة، انتظر العالم أن تتحرك "دوائر النار" للدفاع عن القلب أو الرأس، إلا أنها بقيت هامدة! ما طرح السؤال: هل ستستمر؟ ولماذا هي كذلك؟ والسؤال، وإن بدا عامًّا، هو في عمقه سؤال خاص، يتعلق تحديدًا بحزب الله.. درّة تاج محور المقاومة، وقائدها خارج إيران لأعوام خلت، والملاصق لإسرائيل، والمستعد تاريخيًّا، عبر قوة الرضوان، لاقتحام الجليل في مشاريع سابقة. لكن، لفهم موقف حزب الله اليوم، علينا أولًا أن نفهم عمق تأثير الحرب مع إسرائيل عليه، وكيف يفكر اليوم.
لا يخفى على أي متابع لحزب الله حجم الضربات التي تعرّض لها؛ فقد خسر بشكل شبه نهائي القيادة التي كانت تملك كلمة فصل في حسابات إيران الإقليمية، كما فقد جزءًا كبيرًا من ترسانته العسكرية المهدِّدة لإسرائيل
"حزب الله الإقليمي"
يمكن التفكير في حزب الله على أنه شقّان رئيسيان متشابكان: شقّ محلّي وشقّ إقليمي. هذا الشقّ الإقليمي، الذي لطالما شكّل تهديدًا لإسرائيل، تعرّض خلال الحرب لضربات وازنة، من الانكشاف الأمني واغتيال القيادات، إلى التنكيل بالعناصر والبيئة، ناهيك عن توقيع اتفاق كان الحزب يعتقد أنه سيمهّد لإعادة البناء بأريحية، لتأتي الضربة القاصمة بقطع خط الإمداد الرئيسي مع إيران، عبر سقوط النظام الحليف في سوريا، وكل ذلك بعد توقيع الاتفاق مع إسرائيل، أي بطريقة غير محسوبة.
لا يخفى على أي متابع لحزب الله حجم الضربات التي تعرّض لها؛ فقد خسر بشكل شبه نهائي القيادة التي كانت تملك كلمة فصل في حسابات إيران الإقليمية، كما فقد جزءًا كبيرًا من ترسانته العسكرية المهدِّدة لإسرائيل، وفقد أيضًا القدرة على الترميم وإعادة التسلّح "السريع".. وإذاً، ماذا تبقّى من الحزب؟
رغم كل ما تعرّض له، ما تزال إسرائيل تلاحق حزب الله عن كثب، وتحديداً في ما تبقّى من بنيته الإقليمية المهدِّدة، أي بقايا ترسانته العسكرية المؤثِّرة، وبنيته التنظيمية التي تضم آلاف المقاتلين والقياديين، الذين لم يتخلّ الحزب عن دفع رواتبهم وتوفير المخصّصات المالية لهم للعمل، وما زالوا يمارسون مهامهم، ويفكّرون باستمرار في كيفية إعادة بناء ترسانة الحزب وتسليحه رغم شدة التضييق، مستشهدين بما تمكّنت منه حركة حماس في غزة على مدى السنوات الماضية رغم الحصار.
هذه البنية تلاحَق بشكل حثيث من إسرائيل في مستويات وأبعاد مختلفة، كما تلاحِق بشكل يساويها في الدقة -بل يزيد- تمويل حزب الله، الذي يُعدّ عصب العمل العسكري النوعي، والذي يعتبر كذلك عصباً اجتماعياً مؤثراً.
يمكن القول إن الحزب منكبٌّ على إعادة تعريف شرعيته الداخلية وتثبيتها، بعيدًا عن الصراع الإقليمي والعسكري، بالشراكة مع حركة أمل، وذلك بالتوازي مع محاولاته إعادة بناء هيكله وحضوره الداخلي والخارجي
"حزب الله المحلي"
لا تكتفي إسرائيل باستهداف بنية حزب الله العسكرية، فهي تدرك أن عمق حزب الله الداخلي والشعبي، إذا ما استمر، يمكن أن يُعيد بناء الحزب بأبعاده المختلفة على المدى الطويل. لذلك، تشنّ إسرائيل حرباً موازية على حزب الله ببعده اللبناني الداخلي، كما بعده العسكري الخارجي.
في البعد السياسي- الاجتماعي اللبناني، لم يتأثّر حزب الله بالحرب كما تأثّر في الجانب العسكري الخارجي، بل يسعى اليوم إلى إعادة تعريف حضوره الداخلي، وفصله عن السلاح والدور الإقليمي، وهو ما ظهر بوضوح في الانتخابات البلدية التي جرت الشهر الماضي. يتمسك الحزب بتحالفه مع حركة أمل، ويتمسّك الطرفان معاً باحتكار التمثيل الشيعي، وإعادة تعريف "الشرعية" على أنها مستمدة من تمثيل طائفة رئيسية في البلاد.
عملياً، يواصل حزب الله تمسّكه بتمثيل الشارع الشيعي عبر إستراتيجيات وخطط واضحة؛ فسردية المقاومة تعززت، مستندة إلى فشل الدولة اللبنانية -بدبلوماسيتها ومؤسساتها- في دفع إسرائيل إلى الخروج من لبنان أو ايقاف ضرباتها، رغم توقف أعمال المقاومة من لبنان. بل إن إسرائيل، إضافة إلى ذلك، تواصل منع إعادة الإعمار في الجنوب بوسائل متعددة: كقصف محاولات تركيب بيوت جاهزة في القرى الحدودية، أو منع تدفّق المال إلى هذا الملف، وكل ذلك تحت شعار: "لا عودة إلى الحياة الطبيعية قبل القضاء التام على حزب الله."
إضافة إلى ما سبق، فقد أثبت حزب الله فعالية داخلية بارزة في الأشهر الماضية؛ إذ يواصل حتى اليوم دفع التعويضات للمتضرّرين، وقد تجاوزت المبالغ المدفوعة مليار دولار في غضون أشهر قليلة، وما تزال تتصاعد وفق آلية دقيقة تقوم على إحصاء الخسائر وتقدير المستحقات، بحسب ما يؤكده مسؤول في الحزب وعدد من المتضرّرين في الضاحية الجنوبية لبيروت. وإلى جانب ذلك، يستمر الحزب في تقديم خدماته لآلاف العائلات، بشكل كامل أو جزئي، في مختلف المجالات، كما اعتاد منذ عقود.
كل ذلك يجري في ظل غياب أي بديل حقيقي داخل الساحة الشيعية، ما يجعل حزب الله، بالشراكة مع حركة أمل، الممثل الحصري للطائفة الشيعية في لبنان.
لذلك، يمكن القول إن الحزب منكبٌّ على إعادة تعريف شرعيته الداخلية وتثبيتها، بعيدًا عن الصراع الإقليمي والعسكري، بالشراكة مع حركة أمل، وذلك بالتوازي مع محاولاته إعادة بناء هيكله وحضوره الداخلي والخارجي، عبر: تعزيز السردية، تثبيت الحاضنة الشعبية، ترميم الهيكلية الحزبية والعسكرية، ضمان تدفّق الأموال، ابتكار طرق لإعادة التسلّح. كل ذلك كان يتم الترتيب له على المدى الطويل، وبإشراف مباشر من إيران، التي عزّزت بدورها حضورها داخل الحزب، من خلال توسيع عدد مسؤولي الحرس الثوري الإيراني العاملين بشكل مباشر في حزب الله، والذين يتولّون الإشراف على هذا المسار، لا سيما في شقّه العسكري.
على الجهة المقابلة، تُدرك إسرائيل بدقّة هذا المسار الذي يتّبعه الحزب، وتطوّر إستراتيجيات معقّدة لمنعه من التحقّق.
الدور الحقيقي للأطراف (كحزب الله والميليشيات الحليفة) سيأتي عند لحظة الذروة، تلك التي ستُقدّرها إيران بنفسها، وتقتنع فيها بأنها باتت أمام تهديد وجودي مباشر، وهي اللحظة التي لم تصل إليها إيران بعد
ثم جاءت الحرب الإسرائيلية على إيران: متى يتدخل حزب الله؟
يُظهر هذا الطرح المفصّل للمسار الذي دخله حزب الله السبب وراء عدم دخوله المباشر في المواجهة حتى الآن؛ فالحزب اختار مسار إعادة البناء والرهان على المدى الطويل لاستعادة القدرة الفعلية على التأثير، انطلاقًا من إدراكه، ومن إدراك إيران من خلفه، أن حجم الأثر المرجو من الانخراط في الحرب لا يوازي حجم الرد الإسرائيلي المتوقع.
لقد فتح الحزب ورشةً داخليةً للحفاظ على ما تبقّى، ومحاولة إعادة بناء ما تهدّم.. لكن، كما يدرك حزب الله وإيران هذا الواقع، تدركه إسرائيل أيضًا، وهي تعتبر أن هذه الإستراتيجية قد تنفع ما دامت المواجهة دون "قطع الرأس" (أي دون سقوط النظام الإيراني).
أما في حال تحقق هذا السيناريو، فإن حزب الله سيجد نفسه عاجزًا حتى عن الوفاء بالتزاماته قصيرة الأمد، سواء من الناحية المالية أو العسكرية أو السياسية أو الاجتماعية.
وعند تلك النقطة، لن يكون للحزب طريق للعودة، بل ستتحوّل المواجهة إلى معركة وجود، أعمق حتى من معركته مع إسرائيل؛ فبينما يمكن لإيران إعادة بناء حزب الله إذا ضُرب هو، فإن ضرب إيران نفسها سيكون أعمق أثرًا على إعادة بناء الحزب أو حتى على استمرار وجوده. وهذا جزء من الخطة الإسرائيلية، التي تراهن على أن ضرب الرأس سيكون أكثر تأثيرًا على الأطراف من الاستنزاف الموزّع على الجبهات، وهي الإستراتيجية التي اتبعتها إسرائيل خلال الأشهر الماضية.
بناءً عليه، فإن الدور الحقيقي للأطراف (كحزب الله والميليشيات الحليفة) سيأتي عند لحظة الذروة، تلك التي ستُقدّرها إيران بنفسها، وتقتنع فيها بأنها باتت أمام تهديد وجودي مباشر، وهي اللحظة التي لم تصل إليها إيران بعد، ولهذا لا تزال تعتمد التدرّج في الضربات، وتمتنع عن استهداف المضائق أو القواعد الأميركية، أو الزجّ بالأذرع العسكرية في عمق الحرب.
لكن، يبقى السؤال الأهم: هل تصل إيران الثورة إلى لحظة الموت، من دون أن تُدرك أنها وصلت إليها، وبالتالي تفاجَأ بتجاوز مرحلة إطلاق صفّارات الإنذار والدخول في حرب صفرية؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.